راجح الخوري
مرة جديدة يعود لبنان إلى النفق المسدود عندما يختلط رياء معظم السياسيين بعجز المواطنين، ويقوى النزف الذي يدفع البلاد إلى حافة الانهيار والإفلاس، في وقت تمضي جوقة الفساد المتوحشة في نهش الدولة والسطو على المال العام، وهكذا كما يضيع صراخ الناس الذين يتظاهرون في الساحات، تضيع المليارات المنهوبة في جيوب الذين يفرضون وصايتهم على معظم مرافق الدولة وأوصلوا الأمور إلى درجة من الفساد لا تصدق، ذلك أن المواطن يضطر أحياناً في بعض المؤسسات أن يدفع رشوة لكي يتمكن من دفع ما يترتب عليه من ضريبة تسهيلاً لأموره!
بعد أسابيع من الحديث عن الموازنة الجديدة التي عكفت الحكومة على وضعها بعد توقف استمر عشرة أعوام، كان الإنفاق يتم فيها على ما يسمى «القاعدة الإثني عشرية»، أي الصَرف وفق أرقام العام السابق، دخلت مسألة تمويل السلسلة التي أقرّت قبل خمسة أعوام لزيادة مرتبات الموظفين ورتبهم على الخط، من زاوية البحث عن المصادر التي سيتم الاعتماد عليها لتمويل هذه السلسلة التي تكلف ما يقرب من مليار دولار، وتفجّر الخلاف مجدداً بين خطة تقوم على فرض سلسلة جديدة من الضرائب على الناس، الذين نزلوا إلى التظاهر مجدداً ودعوة إلى تمويل من طريق محاربة الفساد وسياسة الإهدار.
كان المشهد سيريالياً خالصاً في مجلس النواب اللبناني، الذي عكف على دراسة تمويل السلسلة وإقرار لائحة من 27 بنداً لفرض ضرائب قيل إنها لن تطاول الفئات الفقيرة من المواطنين، في حين أكّد الخبراء الاقتصاديون أنها ستصيب الناس في النهاية، لأنها ستضرب الدورة الاقتصادية المترنحة أساساً، والسيريالية هنا لها وجوه عدة:
أولاً - من الناحية الدستورية يقول الخبراء إنه لا يجوز فرض ضريبة على المواطنين إلا عبر السلطة التشريعية التي أعطاها المواطنون حق التمثيل العام، ولأن مجلس النواب الحالي كان قد مدد لنفسه مرتين في السابق، فلا يحق له التشريع ضرائبياً ويمكن الطعن في قراراته أمام المجلس الدستوري.
ثانياً - لأن الخلاف الأبدي على قانون الانتخاب قد منع التوصل إلى صيغة يوافق عليها الجميع لإجراء انتخابات جديدة، يفترض أن تجري في مايو (أيار) المقبل، وكانت وزارة الداخلية قد أصدرت قراراً لإجرائها وفق مواعيدها لم يوقعه رئيس الجمهورية، فقد اختلطت مسائل الموازنة مع مشاكل الضرائب المقترحة مع مسألة الخلاف على قانون الانتخاب، وهو ما أدخل الوضع السياسي العام في البلاد نفقاً من التعقيد ليس من الواضح كيف سيتم الخروج منه.
وفي انتظار فض الاشتباك بين عملية إقرار الموازنة وبين تمويل السلسلة وبين الاستحقاق الانتخابي الذي بات الآن من الواضح أنه سيفرض «تمديداً فنياً» [لاحظ كلمة فنياً، ولكأن اللبنانيين أمام استعراض راقص!]، تراوح الأمور في مكانها، لتجعل من لبنان بلد العجز والفوضى العارمة وجنة الفساد غير المسبوق.
فعلاً كان المشهد سيريالياً عندما غرق النواب الذين عكفوا على دراسة تمويل السلسلة، فيما يشبه مباراة للحديث عن وحش الفساد والإهدار، وعن موجة مخيفة من تهرّب «الحيتان الكبيرة» من دفع ما يترتب عليها من الضرائب، وأحياناً كثيرة بتحريض من بعض المسؤولين وعلى خلفية أن الإعفاءات من الضريبة آتية لا ريب فيها، وكذلك من انخراط هذه الحيتان في التهريب من البوابات الفالتة سواء عبر الحدود مع سوريا، أو في المطار والمرافئ.
عملياً كل ما قيل ويقال على ألسنة معظم الطاقم السياسي والحزبي عن محاربة الفساد والعمل لوقف الإهدار المستشري في مؤسسات الدولة وإنهاء السرقات المشهودة يبقى كلاماً بلا معنى، فعندما يقال على سبيل المثال، إن فاتورة تهرّب بعض التجار من الضريبة في المرفأ وحده تتجاوز ملياراً و900 مليون دولار في السنة، ولا تبادر السلطة إلى معالجة فورية لهذا، فمن حق الشعب أن يتظاهر ويثور اعتراضاً، وعندما يقال إن عشرات المئات من ملايين الدولارات تضيع في المطار، سواء عبر عمليات التهريب أو عبر التلزيمات المشبوهة ولا تتحرك الدولة لوقف هذا من حق اللبنانيين أن يغضبوا ويرفضوا كل محاولة لفرض ضرائب جديدة عليهم.
وعندما يستمر صراخ السياسيين عن الهدر في شركة الكهرباء الذي يبلغ ملياري دولار في السنة، ومعروف أن ثلث الدين العام المترتب على لبنان الذي تجاوز 75 مليار دولار، ناتج عن خسائر شركة الكهرباء، ولا تتحرك الدولة لمعالجة هذا الأمر أو لإيجاد حل جذري له، وعندما يدفع لبنان مبلغ مليار و200 مليون دولار قبل أربعة أعوام لمعالجة مشكلة الكهرباء دون التوصل إلى أي نتيجة، لا يحق للدولة أن تتجه إلى فرض أي نوع من أنواع الضريبة على الناس.
قبل أسابيع قامت قيامة أصحاب مصانع البلاط، لأن خطوط التهريب مفتوحة عبر الحدود مع سوريا، ما يهدد المعامل اللبنانية، وقبلهم قامت قيامة مزارعي البقاع بسبب التهريب، لكن على امتداد العود ومنذ خروج الاحتلال السوري لم يستطع أحد أن يضع حداً لهذا الفلتان.
منذ خمسة أعوام والصدام قائم على تمويل السلسلة التي لا تكلّف الدولة أكثر من مليار دولار، في حين تبلغ فاتورة التهرب من الضريبة والإهدار في الكهرباء وحشو إدارات الدولة بموظفين لا يعملون أو لا حاجة لهم بل على سبيل التنفيعات، أكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً وفقاً لتقدير خبراء الاقتصاد، ليس من حق الحكومة تحت أي ذريعة الحديث عن فرض الضرائب!
لكن ابتسم، أو ابكِ أنت في لبنان، فلقد حاول الرئيس الراحل شارل حلو أن يقوم بحركة إصلاحية للإدارة لكنه فشل تماماً، ورحل الرئيس إلياس الهراوي وهو يشكو من أن الدولة بقرة يحلبونها وقد جفّ فيها الحليب، وعندما قام الرئيس رفيق الحريري بحركته الإصلاحية عام 1993 تدخلت الطوائف والمذاهب [ويا غيرة الدين] فأعيد الفاسدون الذين تم تطهيرهم مظفّرين إلى وظائفهم ومراكزهم ما أفسد زملاءهم الأوادم، وليس خافياً كيف رسّخ الاحتلال السوري ثقافة السرقة والتشبيح والإهدار في البلاد، ثم كيف دخل لبنان مرحلة الانقسام بين الآذارين، ليصبح مجرد قطعة من الجبنة أو ما تبقى من جبنة، يتسابقون على قضمها، ولكأنهم في قارب مشرف على الغرق والشاطر من يأكل أكثر.
السياحة في لبنان مشلولة في غياب الإخوة العرب نتيجة سياسات التهجم والافتراء على المملكة العربية السعودية ودول الخليج، والزراعة معدومة في غياب الحوافز وازدهار التهريب، أما الصناعة فإلى تراجع بعدما أقفل 388 مصنعاً بين عامي 2012 و2015، وليس من شيء مزدهر سوى السرقة والإهدار والسطو المنظم على المال العام، والحكومة تبحث عن مليار دولار لتمويل السلسلة بينما تضيع ستة مليارات إما في دهاليزها أو نتيجة تعاميها والتقصير... والشعب أو الشعوب اللبنانية المنقسمة طائفياً ومذهبياً ليس في وسعها أن تغّير شيئاً في لبنان جنة الفساد الناشط!. . . .
التعليقات