خليل علي حيدر

قد لا يحسم الجدل حول جذور ومبعث الطائفية في سوريا، وما إذا كانت هي الأصل أم الاستثناء، وهل «الجيب الطائفي» أفرز هذا النظام أم أن النظام الحالي لمصالحه ومخاوفه، هو من غرسها وكرسها. وإذا كان النسيج الوطني والاندماج بهذه القوة في سوريا، فلماذا تمزّق هذا المجتمع وتشظت المعارضة بهذا الشكل، ولماذا ظهرت وتقاتلت كل هذه التنظيمات «الجهادية» وغير «الجهادية»؟
لم تعد البوصلة السورية، في بعض لحظات اليأس، تعرف الشمال من الجنوب، وباتت حائرة إزاء الخيارات المرة والوقائع المريرة. وكما ينقل الكاتب والناشط السوري «أكرم البني» في بعض مقالاته، صار بعض السوريين يردد عبارة عجيبة مثل «أُحبذُ العيش في سوريا طائفية على أن أعيش في سوريا الإسلامية الأصولية»!
وكان هؤلاء في الأمس القريب، يقول الأستاذ «البني»، من أشد المتحمسين لفكرة المواطنة، لأنها تنقذهم من روابطهم المتخلفة وتضعهم على قدم المساواة مع غيرهم، و«لكنهم اليوم ومع انسداد السبل أمامهم كما يقولون، بفعل حضور سياسي إسلامي يحاول الاستئثار بالسلطة وفرض أجندته، يتراجع هذا الخيار لديهم نحو الروابط الطائفية والاثنية».
كانت الثورة السورية من أجل «الديمقراطية وحرية التعبير ودخول القرن الجديد».. فمن أدخلها دهاليز «الجهادية والسلفية ودولة الخلافة»؟ السلفية و«الجهادية»، يقول الكاتب السوري عمار ديّوب، تعلنان أن ثورتهما ليست من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل من أجل «دولة إسلامية» مُتخيلة، ومن أجل استعادة المجتمع الإسلامي الذي هويته من هوية الأكثرية الدينية. الشعب السوري واحد، أي أن أهداف ثورته هي من أجل كل السوريين».
«الفصائل الإسلامية» في سوريا كما في دول عربية ربيعية أخرى، دمرت الثورات، بل دمرت حتى مشروعها الإسلامي! أحد المواقع الإلكترونية أورد أسبابًا عديدة دفعت الفصائل للاقتتال في سوريا. فمع بداية تحول الثورة السورية إلى العمل المسلح، عمل الجميع تحت راية «الجيش السوري الحر»، وكان وقتها رمزًا لتمييز الثوار عن جيش النظام وميليشياته، إلى أن بدأت تبرز أسماء تنظيمية مختلفة، بعضها أطلق على نفسه «تنظيمات إسلامية»، لتبدأ مرحلة جديدة قائمة على التنافس السياسي والإعلامي.
وشهد العام الأول من الثورة السورية إطلاق النظام سراح العشرات من سجناء «صيدنايا»، وغالبيتهم أصحاب خلفية إسلامية «إلا أن لهم أيضًا مضارب فكرية مختلفة، وعاشوا مرحلة خلافات حادة أثناء وجودهم في السجن، وعند خروجهم والتحاقهم بالفصائل العسكرية كانت الأرضية مهيأة لإعطائهم مكانة بارزة في كل تنظيم، غالبهم تحصيله -الثقافي والشرعي- ذاتي، والقليل منهم صاحب كفاءة أكاديمية.. وتطور الأمر فيما بعد عند وصول تلك الشخصيات لمراكز قيادية عليا.
كما تميزت الثورة السورية بأنها ثورة أرياف بالدرجة الأولى، وغالبًا ما تحولت كل بلدة أو عدة قرى مع بعضها إلى فصيل عسكري واحد مختلف عن فصيل المنطقة المجاورة. ومن أبرز أسباب اقتتال تنظيمات وفرق الإسلاميين كما يشير التقرير، «الخلافات على الموارد». فكل فصيل يسعى للبحث عن مورد يمول منه عناصره ويستطيع من خلاله شراء السلاح.
وبرزت هذه الخلافات على وجه أوضح في المناطق التي ينتشر فيها النفط، حيث شهدت دير الزور في أواخر عام 2013 اقتتالًا بين فصائل «الجيش الحر» على الآبار النفطية في حين ركز تنظيم «داعش» معاركه على المناطق الشرقية في دير الزور والرقة والحسكة بحثًا عن موارد تمويل، كما شهدت المعابر الحدودية مع تركيا اشتباكات متكررة.
ومن الأسباب الأخرى ضمن دوافع الاقتتال اختلاف الدول المساندة للفصائل، وبروز تنظيمات إرهابية عالمية كـ «القاعدة» و«داعش»، والغلو وانتشار التكفير. كل ذلك في ظل «غياب جسم عسكري وسياسي وقضائي يدير العلاقة بين الفصائل».
وقد نجحت هذه الفصائل من جانب والسلطة من جانب آخر في تغيير مسار الثورة السورية.. نحو المجهول. وعلى العموم، يقول الكاتب «ديّوب» نفسه «انتهى الدور السوري الآن، وسوريا محكومة بالتوازنات الإقليمية والدولية، وما يُعدُّ من هُدَنٍ أو اتفاقيات علنية وسرية ليس لمصلحة السوريين. نعم كان السوريون ثائرين ضد النظام، والآن أصبحت مهمتهم الثورة ضد الاحتلالات المتعددة الأشكال».
وبناء الوطن السوري، كما يرى مثقفون سوريون مثل أكرم البني لم يعرف سلطة سعت إلى خلق نسيج اجتماعي يكرس روح المواطنة. والمحاصصة الطائفية شكل مَرَضي من أشكال «الديمقراطية التوافقية لاحتواء مكونات مجتمع تعددي، ولكنّها تطيح عمليًا بصحة المجتمع وعافيته، وزاد الأمر تعقيدًا سلوك المعارضة السورية التي يبدو أنها لم تخرج من جلباب أساليب السلطة، وبدت محاولاتها مكشوفة حين لجأت بدورها إلى المحاصصة في اختيار الشخصيات القيادية، وبالغت في تقديم أسماء كردية أو علوية أو مسيحية أو درزية».
ولكن هل كانت هذه المعارضة المحاصَرة تسلم من النقد حقًا لو لم تفعل شيئًا كهذا؟ كيف تستطيع الدولة الوطنية، حتى خارج سوريا، التغلب على مثل هذه الانقسامات الاثنية والدينية؟