محمد السعيد إدريس

من أهم الدروس الاستراتيجية التي خرجت بها إيران من حرب الثماني سنوات مع العراق ألا تسمح للعراق مرة أخرى أن يكون مصدراً لتهديدها، وهذا يعني أمرين؛ أولهما، منع ظهور عراق قوي قادر على تهديد إيران، وثانيهما، منع وجود عراق ضعيف وغير مستقر يكون مصدراً للخطر على إيران، والنتيجة، أو الحل هو أن تكون إيران هي من يدير العراق، وصاحبة القرار فيه.

هذا الطموح تحقق لإيران عبر ثلاثة مسارات بكل أسف، المسار الأول هو الغزو، والاحتلال الأمريكي للعراق، الذي دمر البلد وقدراته الاستراتيجية، وحقق لإيران أحد أهم مطالبها في العراق، المسار الثاني هو التردد والعزوف العربي عن الدخول القوي إلى العراق بعد احتلاله أمريكياً، كانت هناك موانع لهذا الدخول، أبرزها ألا يتهم هذا الدخول بأنه ظهير، أو داعم للاحتلال، لكن الفراغ الذي نشأ في العراق بسبب الغياب العربي هو الذي ساعد على نجاح المسار الثالث، وهو الدخول الإيراني القوي في العراق بضوء أخضر أمريكي. 

كان الأمريكيون في حاجة إلى من يتحمل عبء المسؤولية عنهم في العراق، وأن يحمل الأوزار، العرب ابتعدوا وتقدمت إيران، وكانت النتيجة أن إيران أصبحت القوة الإقليمية الأقوى نفوذاً في العراق عبر العديد من الأدوات، بعضها سياسي، وبعضها استخباراتي، وبعضها اقتصادي، وبعضها عقائدي - طائفي، لكن في المجمل باتت إيران هي المتنفذة في العراق، وأضحى العرب هم من يدفعون الأثمان.

الآن، وبعد كل تلك السنوات يبدو أن إيران باتت هي المرشحة لكي تدفع الأثمان في العراق، وأن ينحسر دورها ونفوذها، على الأخص بعد الانتهاء من معركة تحرير الموصل من احتلال عصابات تنظيم «داعش» الإرهابي. بدأت مساوئ إيران تتكشف، الفشل، الفساد، الانسحاق أمام «داعش»، كلها من تبعات السيطرة على الموصل، ونوري المالكي رجل إيران القوي الذي كان صاحب السلطة الأعلى في العراق.

بدأ التمرد على إيران، وبدأت التحديات المكثفة تفرض نفسها على إيران. فالعراق يواجه شبح اندلاع حرب أهلية بسبب الاحتقان غير المسبوق عند سكان المحافظات الشمالية «السُنية» ضد ميليشيات «الحشد الشعبي» الموالية لإيران بسبب جرائمها ضد سكان المحافظات التي جرى تحريرها من «داعش»، ويتفاقم الخلاف بين رئيس الحكومة حيدر العبادي وميليشيات «الحشد الشعبي» بسبب تجاوزات الحشد، وخاصة الإصرار على التوجه نحو سوريا، والتصعيد من جانبه ضد رئيس الحكومة، خاصة بعد زيارته للسعودية في يونيو/حزيران الماضي، وميوله الواضحة للتقارب مع المملكة، وإعلانه التزامه بسياسة محايدة للعراق في علاقاته الإقليمية، ما يعني الخروج، ولو التدريجي، من العباءة الإيرانية، وجاء تفاقم التطورات الانفصالية في كردستان العراق لتضع إيران أمام وضع لا تحسد عليه، لكن التطور الأهم جاء من جانب حلفاء إيران من قادة التحالف الشيعي الحاكم خاصة: مقتدى الصدر، وعمار الحكيم، وحرص كل منهما على طرح مشروع سياسي وطني جديد بعيد عن الطائفية السياسية التي ترعاها إيران في العراق.

كانت إيران تحاول احتواء كل هذه الأزمات، لكنها فوجئت في الأسبوع الماضي بما يمكن تسميته ب«الصدمة المزدوجة» بزيارة مقتدى الصدر للسعودية يوم الأحد 30 يوليو/تموز الفائت، وبإعلان عمار الحكيم زعيم المجلس الأعلى الإسلامي في العراق انشقاقه على تنظيمه، وتأسيسه لتيار سياسي جديد أعطاه اسم «تيار الحكمة الوطني»، بعد معركة تنازع مريرة مع قادة المجلس تركزت بالأساس حول ميول عمار الحكيم للتخلص من الإرث الطائفي للمجلس، وعباءة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وسلوك سياسة وطنية عراقية ضمن مشروع وطني يرتكز على بناء دولة المواطنة، وتحجيم دور الميليشيات، خاصة «الحشد الشعبي»، واستعادة الدور العربي للعراق وانتهاج سياسة توازن في علاقات العراق الإقليمية.

زيارة مقتدى الصدر للسعودية لم تأت من فراغ، واستقبال تامر السبهان وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، سفير السعودية السابق في بغداد له في مطار جدة، لم تأت من فراغ، ولكنها وليدة تمرد واضح وصريح من جانب مقتدى الصدر على تغوّل الدور الإيراني في العراق، وفساد النخبة الحاكمة الموالية لطهران، وعلى الدور المتعاظم لميليشيات «الحشد الشعبي» في إدارة السياسة والحكم في العراق، وتوجه الصدر نحو التأسيس لحكم جديد في العراق بمشروع وطني يضع نهاية للطائفية، ويستعيد العراق عروبته، كما أنها نتيجة لتفاهمات بين مقتدى الصدر وحيدر العبادي، وتواصل ممتد بين الحكومتين السعودية والعراقية بدأت بزيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للعراق في فبراير/شباط الماضي، ولقاء العاهل السعودي برئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي على هامش القمة العربية الدورية في الأردن مارس/آذار الماضي، ثم زيارة العبادي للسعودية، وهي الزيارة التي أسفرت عن تأسيس مجلس تنسيقي يرعى العلاقات والتعاون المشرك في المجالات كافة.

كانت السعودية تتابع تمرد مقتدى الصدر على إيران، وعلى السياسات الطائفية داخل العراق، وكان مقتدى الصدر واعياً بحرص السعودية على الدخول مجدداً إلى العراق برؤية سياسية جديدة، تميز بين التشيع العربي والتشيع الصفوي الموالي لإيران، وتدعم علاقات عربية جديدة مع العراق بعد التخلص من «داعش»، خصوصاً مع استعداد العراق للانتخابات التشريعية العام القادم.
زيارة مقتدى الصدر للسعودية رفضتها إيران، ورفضها رجال إيران في بغداد، ونددوا بها، خاصة نوري المالكي، لكنها ستفتح آفاقاً جديدة للعراق مع عمقه العربي، خاصة الخليجي، في رسالة عميقة الدلالة نحو إيران تزامنت مع تحولات شديدة الأهمية في مواقف عمار الحكيم من طهران وجماعتها في بغداد، وكلها تطورات تقول إن المنطقة مقبلة على معادلات سياسية جديدة ستكون إيران المرشحة لدفع أثمانها.