يوسف مكي
حين بدأت معركة الموصل، نشرت مقالتين، حملتا نفس التاريخ من نوفمبر/تشرين الثاني 2016. الأولى في صحيفة «الخليج» الإماراتية بعنوان «معركة الموصل وعودة الحديث عن الفيدرالية»، والأخرى نشرت في صحيفة «الوطن» السعودية وحملت عنوان «ما بعد الموصل ليس كما قبله».
في المقالتين، جرى التنبؤ بأن موضوع تقسيم العراق، سوف يأخذ مكانه بعد الانتهاء من معركة الموصل. وأشرنا في حينه، إلى أن العراق ستجري محاولة تقسيمه إلى ثلاث دول، كردية وهي قائمة واقعياً منذ عام 1990م. وأن ما تبقى هو الإعلان رسمياً عن انفصال شمال العراق عن المركز، ودولة سنية ستأخذ مكانها في ما أطلقت عليه الإدارة الأمريكية بالمثلث السني، ويشمل محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالي.
ولم تكن تلك القراءة رجماً بالغيب، بل كانت بناء على تحليل لواقع عراق ما بعد الاحتلال، حيث انخرط الأكراد بالعملية السياسية، التي منحتهم حقوقاً، تقترب من حقوق الدولة المستقلة. فهم يتمتعون بوجود دولة بهياكل مكتملة، وبجيش قوي «البيشمركة»، بات بعد الاحتلال الأمريكي للعراق أقوى من جيش المركز. وقد أشارت تقارير من مصادر مقربة من الحكومة العراقية، إلى أن اتفاقاً ضمنياً تم بين الأمريكيين والأكراد، إلى أن الفيدرالية التي تأسست بعد الاحتلال، هي محطة أولى على طريق تقسيم العراق، إلى ثلاث دول.
لكن اندلاع المقاومة العراقية، ودخول تنظيمات التطرف ك«القاعدة» و«داعش» على الخط، وتمكن «داعش» من احتلال عدة محافظات عراقية، حال دون تنفيذ مشروع التقسيم. ولذلك توقعنا أن تكون خطوة ما بعد القضاء على «داعش»، المضي قدماً في مشروع التقسيم، خاصة بعد مشاركة «البيشمركة»، مع الجيش العراقي المكون حديثاً، والميليشيات التي عرفت بالحشد الشعبي في القتال ضد «داعش»، وتمكن الأكراد من الاستئثار بمحافظة كركوك، ذات الأغلبية العربية والتركمانية.
قد تكون الظروف مواتية للأكراد لإعلان انفصالهم عن العراق، بسبب ضعف المركز، وعدم قدرة الجيش العراقي، على ردع أي محاولة انفصالية، وأيضاً بسبب تواطؤ بعض القوى السياسية المتنفذة مع مشروع التقسيم، لكن مجمل الظروف المحيطة، لا تخدم هذا الهدف، بل إن دول الجوار بدأت في الإفصاح عن نيتها التصدي لذلك، وبرزت إشارات باستعداد بعضها لاستخدام القوة العسكرية للحيلولة دون تمكن مسعود البرزاني من تحقيق هدفه.
تحدي الجغرافيا، إذن هو المعوق الرئيسي لقيام دولة كردية. فالأكراد محاطون بقوتين إقليميتين، تركيا من الشمال وإيران من الشرق، كما يشاطر شمال العراق، سوريا غرباً. والمنطقة ليس لها اتصال بالبحر. ومصدر ثروتها الرئيسي حالياً يتأتى من النفط، والنفط بحاجة إلى تصدير إما عبر المركز، جنوباً باتجاه الخليج العربي، أو عن طريق تركيا، باتجاه البحر الأبيض المتوسط، أو البحر الأسود، أو من خلال الأراضي السورية، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.
ليس ذلك فحسب، بل إن الأكراد سيعدمون كل وسائل الاتصال بالعالم، براً وجواً وبحراً، إذا ما وقفت جميع الدول المجاورة ضد الانفصال، وهو ما لا تملك أي دولة في العالم القدرة على تحمله، فضلاً عن دولة ناشئة بقدرات محدودة جداً.
هل هذه الحقائق غائبة على الزعيم الكردي البرزاني، وهو يطرح موضوع الانفصال؟ بالتأكيد لا يمكن أن يكون البرزاني غافلاً عن هذه الحقيقة. وهو يعلم أن الجغرافيا من حوله، معادية لمشروعه. وأن قبول الأتراك والإيرانيين بقيام دولة كردية، يعني فتح أبواب جهنم داخل حدودهم. فالأكراد في دولهم هم أكثر عدداً، ولديهم نفس صبوات أكراد العراق، في الانفصال، وبناء دولة مستقلة. والحرب بين الأكراد، والحكومات التركية المتعاقبة هي أمر واقع ومعروف للجميع. وفترات الهدنة في هذه الحرب، هي فترات قصيرة ومحدودة. وبالمثل هناك صبوات لأكراد إيران باتجاه الانفصال، بل إنهم أقاموا جمهورية في شمال غرب إيران عام 1946م، لم تعمر سوى عدة أسابيع، وتم سحقها بالقوة العسكرية. ولا يزال كثير من الأكراد يتطلعون إلى اليوم الذي يتمكنون فيه من الانفصال عن إيران، وتشكيل دولتهم. لكن جملة الظروف الدولية والإقليمية حالت دون تمكينهم من تحقيق هذا الهدف.
أكراد العراق، تمتعوا بحظوة يحسدون عليها من قبل أقرانهم الأكراد بالبلدان المجاورة، بسبب المواقف الدولية، وأحياناً قوى إقليمية، تبادلت جميعها الأدوار في تأييد قيام كيان كردي على الأراضي العراقية، مع موقف حاد يصل حد العداء، تجاه أكراد إيران وتركيا. وقد وقف الكيان الصهيوني باستمرار داعماً لمحاولات الأكراد، تأسيس دولة لهم في شمال العراق.
أثناء الحكم الملكي في العراق، ساند الاتحاد السوفييتي الحركة الانفصالية الكردية، التي كان يقودها آنذاك، الملا مصطفى البرزاني، والد الزعيم الحالي مسعود. وبعد قيام الجمهورية، ساندت بريطانيا وأمريكا والكيان الصهيوني، في كل الحكومات العراقية المتعاقبة، الحركة الكردية.
والأغرب أن شاه إيران الذي دخل في صراع مرير مع الحكومة العراقية في مطالع السبعينات، من القرن الماضي، مطالباً بحصة في شط العرب، وفي عملية تصعيد صراعه مع العراق، قدم مختلف أشكال الدعم للحركة الانفصالية الكردية، بما في ذلك استخدام السلاح الجوي، إلى أن توصل بموجب اتفاق الجزائر عام 1975م، إلى معاهدة نصت على تقاسم مياه شط العرب بين العراق وإيران.
لماذا يصر البرزاني، على إجراء الاستفتاء مع علمه المسبق، باستحالة تحقيق ذلك ضمن المعطيات التي أشرنا إليها؟
التعليقات