&جميل مطر&

شاهدت مع ملايين المشاهدين إحدى الحلقات الأخيرة في مسلسل نهاية «عصر السلم الأميركي». امتدت ساعة زمن أو أطول قليلاً، ساحتها ميدان قوس النصر وسط مدينة باريس عاصمة فرنسا وأبطالها عددهم يتجاوز السبعين يمثلون عشرات الدول، شاءت الأجواء أن تسلط عليهمرياحاً باردة وتغسلهم بأمطار لم تتوقف إلا نادراً. جلست مستمتعاً. لم تمر لحظة واحدة مملة. الكل، باريس الرائعة دائماً والضيوف على اختلاف ألوانهم ومكاناتهم وأدوارهم وفي صدارتهم دونالد ترامب الزعيم المنتشي على الدوام والغارق في ذاته لا يرى غيرها ومعه في الصدارة إيمانويل ماكرون، المخرج الذي ظهر تارة في دور اللاعب المشارك بحماسة وتارة في دور المضيف المتوتر بشدة وغير الواثق تماماً من تفاصيل الحقيقة، حقيقة نهاية عصر السلم الأميركي ليس كما يتمناها أن تكون ولكن كما يخشى أن تكون.


لا أظن أن مخرج هذه الحلقة تعمد أن يثير في نفوس المشاهدين، أو حتى قلة منهم، ما أثارته الحلقة عندي. سبق لمخرجين آخرين وفنانين ومؤرخين وأدباء أن غرسوا في داخلي ما يكفي من رفض للحروب فلم أكن في حاجة للسيد ماكرون ليضيف بهذا الحفل مزيداً من الرفض وربما الكره لهذه الهواية التي يجيد ممارستها الحكام والسياسيون وتدفع ثمنها الشعوب.

أفلح ماكرون معي كمشاهد في شيء آخر. وجدت نفسي أمام لوحة يقف فيها؛ مأزومين ومتنافرين؛ سبعون أو ما يزيد من حكام العالم يكاد يطل منها عنوانها، نهاية مرحلة السلم العالمي الطويل، وجدت نفسي أقارن بكل الشغف المتاح والمعلومات المخزونة عبر سنوات المتابعة بين نهايات ثلاثة عصور، عصر السلم الروماني وعصر السلم البريطاني وعصر السلم الأميركي، ومتوقفاً قليلا أمام ثلاثة رجال أظن أنهم اشتركوا في استعجال هذه النهايات وسوف تبقى توقيعاتهم ممهورة وشاهدة على أدوارهم. هؤلاء هم ماركوس أورليوس وأنطوني ايدن ودونالد ترامب.

لاحظت أنه في كل هذه العصور كانالطرف المهيمن هو المسؤول عن السلم في عوالم اختلفت مساحاتها باختلاف الزمن والقادة والشعوب. هذا الطرف المهيمن التزم في الحالات الثلاث، أي حال السلم الروماني والسلم البريطاني والسلم الأميركي، مبادئ أو قواعد عامة. عرف مؤرخون أنه في أوج عصر السلم لم توجد قوة كبرى أخرى تهدد هيمنة الإمبراطورية. كانت الدولة المسؤولة عن تحقيق الاستقرار العالمي حريصة على نشر الوعي بدورها في أنحاء العالم الخاضع لنفوذها. الإمبراطورية موجودة لتفرض الحماية، وفي الوقت نفسه تثبيت الهيمنة. هي لا تحارب الرعايا والكيانات السياسية الخاضعة لها إنما تعاقبهم. لا تتدخل بالعنف إلا إذا تعرض توازن القوى للخطر. مثال ذلك الدعوة التي وجهتها بريطانيا إلى فرنسا لشن حرب ضد روسيا القيصرية في عام 1854 عقاباً لها على تدخلاتها المتكررة ضد الإمبراطورية العثمانية، رجل أوروبا المريض والمقرر له أن يعيش بقية حياته في حماية نظام خاص لتوازن القوة في أوروبا. حافظت بريطانيا العظمى كذلك على السلم في القارة الأوروبية عندما استخدمت نفوذها وإمكاناتها لمنع اتساع الحرب النمساوية الفرنسية والحرب البروسية الفرنسية. حافظت أيضاً على حرية الملاحة في جميع البحار وتدخلت أكثر من مرة لمنع تغول الدول الاستعمارية الأوروبية على مستعمرات بعضها البعض.

كان التاريخ قد سبق وسجل لأوريليوس أنه الإمبراطور الذي حقق أطول مرحلة سلام نسبي في العالم القديم، عالم البحر المتوسط، قيل أيضاً إن مساحة هذا السلم تجاوزت مساحة إمبراطوريىة الإسكندر المقدوني. عاشت جيوش اوريليوس تطارد البرابرة القادمين من أقاليم في شمال أوروبا وقد بنى جداراً هائلاً يحمي الأراضي الجرمانية وأراضي أخرى في وسط أوروبا من هجرة وغزوات هذه الجماعات وبعضها من أصول آسيوية وبخاصة فارسية، في أرمينيا وما بين الرافدين وتقضي على تمرد في سورية. في النهاية استطاع هذا الحاكم الفيلسوف والمتصوف بمعنى من المعاني أن يحقق استقراراً نسبياً لسنوات انضمت إلى عقود سبقتها لتشكل معها ما نعرفه الآن بقرن السلم الروماني. كان واضحاً في نهاية حكمه أن شعوباً أكثر عدداً كانت تستعد للاستقلال عن الإمبراطورية التي اتسعت أطرافها لأكثر وأبعد من قوة احتمالها.

بدأت مرحلة السلم البريطاني بعد الهزيمة الماحقة لجيوش نابوليون وخلو الساحة الأوروبية من منافس للهيمنة البريطانية، وبدأت مسيرة أفولها عندما تحققت عروش القياصرة والملوك في أوروبا من أن منافساً لبريطانيا العظمىبدأ يعلن عن نفسه، بل ويتطلع إلى إزاحتها. ففي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر كانت ألمانيا تشهد ثورتها الصناعية التي جاءت متأخرة عن الثورة الصناعية في بريطانيا وإن مستفيدة مما أنجزته. وفي عام 1890 كان قد صار معروفاً أن ألمانيا دشنت أسطولاً بحرياً معتبراً. في الوقت نفسه كانت ألمانيا طالبت بنصيب في المستعمرات الإفريقية وفي خطط توزيع النفوذ في الإمبراطورية العثمانية المنهكة. بمعنى آخر بدت ألمانيا وقد حققت الشرط الممنوع، أي عرض نفسها كمنافس حقيقي لبريطانيا العظمى اللاعب المهيمن في أوروبا والقابض على مفتاح السلم العالمي. هكذا جاءت الحرب العظمى تحقيقاً لمبدأ قديم في العلاقات بين الدول، «لا سبيل لحل مشكلة الأمن وقيادة النظام الدولي في حال ظهور منافس للقطب الدولي القائد والمهيمن والمسؤول عن السلم الدولي وتنظيم التحالفات والحفاظ على توازن القوى، لا مخرج سوى الصدام المسلح». وفي الغالب الأعم لم يحدث أن شهد العالم استقراراً وسلماً مباشرين بعد أي مرة وقع فيها صدام مسلح. المتوقع دائماً فترة طويلة نسبياً من الفوضى وعدم الاستقرار. وهو بالفعل ما حدث بعد الصدام البريطاني الألماني على القيادة وفرض سلم عالمي جديد. وقتها انفجر الشعور القومي، الوطني بتشدد، في القارة الأوروبية وبخاصة في ألمانيا وإيطاليا واستولت الماركسية اللينينية على روسيا وانفرطت الإمبراطورية العثمانية وانتشرت حركات الاستقلال الوطني واستعدت الأطراف كافة لحرب عالمية جديدة.

خلافاً لما حصل نتيجة الحرب العالمية الأولى حيث لم يوجد في نهايتها طرف جاهز لاستلام مسؤولية القيادة الدولية فانتشرت الفوضى السياسية والأيديولوجية، انتهت الحرب العالمية الثانية لتجد الولايات المتحدة جاهزة لتستلم القيادة ومعها مشارك مخالف وإن غير منافس على القيادة وهو الاتحاد السوفياتي. استطاعت أميركا صنع وصياغة نظام دولي جديد يستوعب خصمها، وأكرر وليس منافسها، شريكاً في بناء النظام الدولي الجديد والآليات اللازمة لإدارة خلافهما الأيديولوجي والجيوبولوتيكي. معاً، روسيا السوفياتية وأميركا، وتحت خيمة السلاح النووي، استطاعتا المحافظة على السلم الدولي. تشاركتا الهيمنة والمسؤولية عن السلم ولكن لم تتقاسماها. ظل مفهوماً لدى الطرفين أن النظام الدولي الذي تشارك فيه روسيا وتساهم في المحافظة على الأمن والسلم فيه بل والقيادة أحياناً بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الأولوية فيه لأميركا. استمر الحال على هذا القدر من الفهم المتبادل حتى عام 1992، عام السقوط الذاتي للاتحاد السوفياتي. منذ ذلك الحين وحتى اندراج أميركا في حروب خاسرة في أفغانستان والعراق كانت الولايات المتحدة تمارس الهيمنة منفردة وتقود بامكانات متناقصة وصدقية كادت بالتدريج تنعدم مهمة إدارة قضايا السلم العالمي. لا شك أن حلف الناتو، كما صرح الرئيس السابق جون كنيدي، كان أداتها القوية في المحافظة على السلم الأوروبي. على كل حال لا يجوز تجاهل دور الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن.

في بداية تلك المرحلة تدخلت تطورات كثيرة لتسحب من الولايات المتحدة حقها في الاستمرار في إدارة السلم الدولي.أهم تلك التطورات الانحدار النسبي ثم المطلق للقوة الاقتصادية والسياسية لأميركا وبخاصة بعد الأزمة المالية في 2008. حدث أيضاً أن أكدت الصين حقها في أن تعرض نفسها منافساً لأميركا في مستقبل قريب، وكان لهذا العرض صدقية في عواصم كثيرة وبخاصة في روسيا وأوروبا والهند، أي في الدول المرشحة نظرياً أو الطامحة في هذا الدور. في واقع الأمر كان لهذا التطور الأخير الوقع المناسب في النظام الدولي الذي كان قد بدأ يشهد فوضى وعدم استقرار وصعوداً في الشعور القومي مترجماً نفسه في شكل أحزاب وحكومات بعضها يعلن التمرد على النظام الدولي القائم. من ناحية أخرى تحركت في وقت واحد تقريباً أفواج كثيفة من المهاجرين واللاجئين في ما يكاد يتخذ شكل الغزو السلمي لشعوب من الجنوب لأراضي دول وشعوب في الشمال، ويكاد يعلن في الوقت نفسه سقوط النظام الدولي وفشل المسؤول عن تحقيق السلم أو المحافظة عليه. بمعنى آخر كانت هذه التطورات وغيرها مثل الانتقال غير المتدرج من الاعتماد على السلاح الجوي إلى التخطيط والاستعداد بالتميل اللازم لاستخدام الفضاء وأسلحته في سباقات التسلح والقيادة الدولية، كانت كافية كإعلان صريح عن نهاية مرحلة السلم الأميركي، أو نهاية القرن الأميركي كما أحب بعض مشاهير الإعلام الأميركي تسميته.

لا نستطيع إغفال حقيقة مهمة استناداً إلى دروس التاريخ التي أوردنا بعضها في إيجاز. هذه الحقيقة هي أنه سوف يكون صعباً علينا كمحللين ومراقبين أن نضع تقديراتنا للمستقبل مبنية على احتمال عودة الولايات المتحدة رقماً مهيمناً في ساحة العلاقات الدولية، كالرقم الذي اشتهرت به في المرحلة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، أو في مرحلة تسييرها النظام الدولي لمصلحتها من خلال الأجهزة والمؤسسات الدولية التي صاغتها بنفسها، وها هي الآن وبإرادتها المطلقة تتنازل عن احترامها ولا تعتذر عن عدم تنفيذ تعهدات كثيرة التزمتها في عقود أدارت خلالها عملية المحافظة على السلم الدولي.

العالم يعيش مرحلة خطرة نأمل بألا تكون في خطورة المرحلتين اللتين أعقبتا نهاية السلم الروماني والسلم البريطاني. تحدث تطورات يجوز لنا اعتبارها مؤشرات يحتمل كل واحد منها أكثر من تفسير. ماذا نفسر مثلاً استراتيجية روسيا البوتينية تجاه الشرق الأوسط وآسيا والوسطى وشرق أوروبا وبخاصة البلقان وسورية وأفغانستان وأكرانيا؟ كيف نفسر الحال الذي يقترب من وضع الانفراط في الاتحاد الأوروبي واحتدام السباق على النفوذ والسيطرة بين إيطاليا وفرنسا على شمال إفريقيا واتساع شقة الخلاف بين أميركا وشركاء في الحلف الغربي؟ كيف نفسر السرعة التي لجأت إليها الصين أخيراً في تنفيذ مبادرة «الحزام والطريق» وربط المبادرة بالتوسع في بناء قواعد عسكرية برية وبحرية؟ تطورات كثيرة في أميركا الجنوبية وعلاقات دولها بالولايات المتحدة وتطورات في علاقة أميركا بدول الخليج وفي عسكرة البحر الأحمر وصياغة جديدة لنظام إقليمي فرعي في القرن الإفريقي. هذه التطورات وغيرها تشير إلى مستقبل تكثر فيه أوضاع غير مستقرة وتغيب عنه منظومة للأمن الدولي أو دولة أعظم أو حلف متعدد الأطراف أو توازن للقوى يحمي السلم العالمي.

&