عبد الله القفاري

كل ما نراه اليوم ليس وليد ساعته بل جذوره مرتبطة بفلسطين المغتصبة وبالكيان الغاصب وبرعاية ودعم القوى الكبرى التي تتبادل الأدوار في كل مرحلة.. لتُبقي لهذا الكيان حبل التفوق والسيطرة والقوة والهيمنة طيلة تلك العقود العجاف القاسية

في الوقت الذي كان يحتفل فيه الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية بنقل سفارة الأخيرة للقدس، ترتوي أرض فلسطين بدماء زكية، يقدمها جيل ربما لم يرَ القدس، وحتماً لم يشهد النكبة.. ولم يقاس آلام النكسة.. بل ربما لا يعرف من عالمه سوى غزة المحاصرة، التي تأبى إلا أن تقدم الشهداء تلو الشهداء، وكأن قدر هذه البقعة الصغيرة من أرض فلسطين أن تكون أعظم مختبر لنضال شعبي متوهج لا يعرف الركود أو الاسترخاء.. بل ربما أعظم بقعة في العالم تقدم دروس الصمود في مواجهة أعتى احتلال وأقبح استيطان وأبشع ارتكابات يندى لها جبين الإنسان، فما بالك بمن يتجرع مرارة الظلم كل ساعة، وهو يحمل على عاتقه قضية مقدسة لا تسقط بالتقادم، بل تحملها الأجيال تلو الأجيال، وذاك هو السر الفلسطيني الأعظم.. واللغز الذي ما زال يحير الصهاينة وأعوانهم.

سبعون عاماً مضت على نكبة فلسطين، والحق أنها قرن من الزمن مضى على غرس نواة هذا الكيان لتتدفق عبر رعاية بريطانيا العظمى الجماعات الاستيطانية اليهودية من كل حدب وصوب.. وهي تصنع أسس الكيان الغاصب تحت عين الاستعمار أو الانتداب المتورط بكل مراحل صناعته.

كان تأثير نشوء دولة إسرائيل في أرض فلسطين مدمراً ومعطلاً، أكثر من سبعين عاماً من الصراع، أرهق العرب وشتت قضاياهم، وجعلهم مختبراً لكل أنواع الاستبداد ورسم خرائط الاستيلاء، ليس على فلسطين فحسب بل وعلى المشرق العربي برمته.. فكل ما نراه اليوم ليس وليد ساعته بل جذوره مرتبطة بفلسطين المغتصبة وبالكيان الغاصب وبرعاية ودعم القوى الكبرى التي تتبادل الأدوار في كل مرحلة.. لتُبقي لهذا الكيان حبل التفوق والسيطرة والقوة والهيمنة طيلة تلك العقود العجاف القاسية.

وفي كل مرحلة من مراحل الاستيلاء، كان ثمة أدوار متعددة مكّنت عبر سلسلة من الأخطاء أو التآمر.. لهذا الكيان الغاصب.. إنها الشروط الضرورية على الدوام لأمن إسرائيل الذي تظنه، ولتمكين تفوقها وسيطرتها على هذا المجال المضطرب في بلاد العرب.

وفي خضم هذا التمزق العربي والانكشاف العربي الكبير، وفي سنوات اليأس والإحباط تنبثق من هذا القطاع المحاصر روح التضحية والإيمان العميق بالحق الفلسطيني بالعودة. وبينما كان هناك من يدرك أن ثمة شيئاً آخر في سياق الأحداث قد لا يملكون له تفسيراً.. وثمة قوة لا يمكن إجهاضها أو إضعافها ما أن تتمدد في صدور المناضلين والمقاومين والصامدين في أرض الرباط حتى تشتعل تلك المواجهات الدامية، هذا الإيمان هو الجزء الفاصل بين حالة اليأس التي يراد تعميمها وبين ملامح القوة الخارقة التي تنبثق كالمارد في أرض الرماد.. لا تهاب الموت، ولا تتحسب للإصابة أو الإعاقة، وتصر أن تقاوم حتى بمقلاع يحمله مبتور الساقين مكتمل العقل والضمير والإيمان.. لأن ثمة وعداً كريماً وأي وعد؟ لو كنت شاعراً لرثيت شهيد غزة "فادي أبو صلاح"، الذي كان قد فقد ساقيه في هجوم إسرائيلي سابق على القطاع.. ليتقدم بالمقلاع وإرادة الرفض، فهو لا يملك سواهما. ولو كنت أسيطر على القوافي لنظمت عناقيدها وطوقت بها أعناق فتيات غزة ونسوتها المجاهدات.

هناك من سيقول إن كل قوافل الشهداء الماضية واللاحقة لن تمُكِّن من استعادة الأرض أو المقدسات، وإنما هي تزيد في جراح القطاع المحاصر بالفقر والاستباحة اليومية، وأن ثمة دماً مجانياً يهدر بلا قدرة على اجتراح لا معجزة العودة ولا سواها.

ومثل هذا القول قد يستقيم في حالات أخرى عندما تتوافر الإرادات بين الخصوم لصناعة عالم عادل يعترف بالحق ويخضع له، إلا أنه لن يكون سوى استسلام مجاني لجناية كيان غاصب لا يعترف بأية حقوق ويصر على التمدد والاستيلاء. ومن يرى أن تلك الدماء الزكية التي تُسفح على أرض فلسطين وغزة بلا طائل، ربما لا يدرك أن المقاومة بحد ذاتها والرفض والإقلاق المستمر وإشعال القضية على الدوام ومن أجيال متلاحقة.. إنما هو الوسيلة الوحيدة الممكنة اليوم لمواجهة جناية هذا النوع من الاحتلال، وإن كان الثمن كبيراً وخسارة الفقد فادحة، إلا أن دماء الشهداء ليست هدراً مجانياً، إنها سلاسل تشعل جمرة الخوف في قلب عدوهم، وأنه لا أمن ولا استقرار في ظل هذا الاحتلال، وأن الفشل الإسرائيلي في الإخضاع سيترتب عليه فشل أكبر في دوام الاستيلاء.. إنها ليست مجرد دماء نازفة، إنها قناديل تمنح السالكين في طريق التحرير الطويل مدداً لا ينقطع.. ومن يتقدم مقاوماً بصدر عارٍ وفي ظروف قاسية مؤلمة يدرك هذا جيداً.

ولو أدرك أولئك ماذا يعني أن تظل غزة خندقاً متقدماً للدفاع عن الأمة برمتها في أرضها وهويتها ومقدساتها، وتأملوا تاريخ هذا القطاع القريب وليس البعيد، والذي فشلت فيه كل محاولات الحصار والتضييق والحروب الإسرائيلية المدمرة والمتتالية.. لربما أدركوا ماذا يعني هذا الصمود لهم وليس للفلسطينيين فقط.

أليس من التجني إدانة دماء الشهداء، الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواجهة هذا الليل الطويل من الظلم والإلغاء والحصار والقتل والاستباحة والتهجير والنفي؟. وهل كان يطرأ على بال إسرائيل أنه بعد سبعين عاماً سيأتي جيل جديد يتقدم بصدر عارٍ ليرفض الاحتلال ويقاتل بالحجر، وهو الذي هرب أجداده من أراضيهم وقراهم تحت حراب عصابات الصهاينة ومجازرهم التي طالت قرى ونواحي ومدن فلسطين التي كانت.