الاحتجاج المغربي بالمقاطعة احتجاج الافتراضي على الواقعي
عثمان لكعشمي
على رغم التحفظات الكثيرة عن مقاطعة كثر من المغاربة، احتجاجاً، بعض المنتوجات الغذائية وغير الغذائية التي أصبحت بالنسبة إلى المغربي علامات مميزة لوجوده الاجتماعي وسلوكه الاستهلاكي، فإنه لا يفوتنا الوقوف عند هذا النمط الجديد من الاحتجاج الذي يجعل من الوسائل الإعلامية الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل فايسبوك، منطلقاً لشرارتها، خصوصاً إذا استحضرنا أن الاحتجاج هو فعل اجتماعي، بغض النظر عن دوافعه وغاياته. فهل لا يزال الشخص المحتج في حاجة إلى «نزول» و «خروج» إلى الشارع وتملّك (كي لا نقول احتلال) الساحات ورفع اللافتات وترديد الشعارات، كي يحتج؟ أم إن المحتج اليوم استعاض عن ذلك بالمقاطعة؟ صحيح أن المقاطعة ليست فعلاً جديداً، كما أن الافتراضي أدلى بدلوه سابقاً، في ما سمي «الربيع العربي»، ومن ضمنه حركة «20 فبراير» في المغرب، لكن الجديد هو المقاطعة بالافتراضي، مقاطعة منتوجات واقعية من الافتراضي.
قد يتساءل بعضهم عن المصلحة من وراء مقاطعة منتوجات بعينها دون أخرى ولماذا في هذا الزمن السياسي دون غيره؟ فهل يتعلق الأمر بتصفية حسابات سياسية، أم إن الأمر يتعلق بمسألة اقتصادية بحتة تمس جيوب مغاربة الهامش، لا سيما أن المقاطعة تستهدف مواد غذائية أساسية، مثل الحليب والمياه المعبأة (أو المعدنية)، ومواد غير غذائية لكنها حيوية، مثل الوقود، وغيرها من التساؤلات التي تجد جواباً لها إما في السياسة وإما في الاقتصاد، وإما بربطها بشخصيات محددة أو بشركات ومقاولات معينة أو طبقة اجتماعية بعينها؟ لكن الأسئلة التي لم تطرح بعد هي: ماذا تعني هذه المقاطعة من حيث هي مقاطعة من الافتراضي؟ وكيف للمغربي أن يقاطع منتوجات مادية تنتمي إلى الواقع الملموس، من مجال أقل ما كان يقال عنه أنه وهمي؟
يدعونا هذا الاحتجاج بالمقاطعة إلى إعادة النظر في ذلك التمييز الميتافيزيقي الذي كان يقيمه كثر من المثقفين، إلى وقت ليس ببعيد، بين عالم واقعي حقيقي وعالم افتراضي وهمي، بين الكائن وظله. ومن ناحية ثانية يدعونا إلى مساءلة ذلك الفصل الذي طالما نجده في الأدبيات السوسيولوجية المستحدثة التي تعنى بالحركات الاجتماعية، يقيمه علماء الاجتماع بين الأشكال الاحتجاجية والتعبيرات الاحتجاجية. لكن يبدو أن مثقفينا لا يطرحون من الأسئلة إلا تلك التي يقدرون على إيجاد أجوبة جاهزة لها. لقد نبهنا نيتشه أكثر من مرة إلى حدود سمعنا، تلك الحدود التي ضَيَّقت من فُتحات آذاننا وقيّدت كل إمكاناتنا للتعبير عن أنطولوجيانا: البلاهة.
وبعيداً من أي موقف بنيوي مغلق وآخر أيديولوجي أعمى، يمكن القول أن أفعالاً احتجاجية قطاعية افتراضية فعلية كهذه، إن كانت تعبر عن شيء، فهي تعبر عن وعي الإنسان المغربي بأنه لم يعد موضوع استهلاك وتراكم للرأسمال بالنسبة إلى المستثمر فحسب، وإنما هو محرك لسيرورة الإنتاج ومرتكزها، فالكلمة كلمته والفعل فعله هو أولاً. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تدعونا إلى الأخذ في الاعتبار في كل تحليل، بأن الافتراضي ليس مجرد وهم لحقيقة الواقعي الملموس، بل صار هو الواقع نفسه. وأن ما كان ينظر إليه على أنه مجرد تعبير احتجاجي أصبح اليوم هو الشكل الاحتجاجي نفسه.
وعلى هذا النحو، فإن الاحتجاج بالمقاطعة والحالة هذه ليس مجرد احتجاج من الاحتجاجات المعهودة، احتجاج على وضع اجتماعي أو على نظام سياسي أو سياسة مخصوصة، بل هو احتجاج للافتراضي على الواقعي. وعليه، فالمحتج هنا ليس مناضلاً عمالياً أو طبقياً حتى، بل هو «مناضل افتراضي»، يعلنها احتجاجاً على العالم الواقعي، أو بمعنى أكثر دقة على واقعية العالم الواقعي، إن لم نقل حقيقته. لعل ما يمكننا استخلاصه من هذه المقاطعة أنه لم يعد مقبولاً اليوم النظر إلى الافتراضي كوهم لحقيقة الواقعي أو كمرآة له، وإنما هو الحقيقة نفسها، حقيقة أوهامنا.
التعليقات