سليم نصار

عندما طالب الشاعر سعيد عقل بضرورة إلغاء قانون تجنيس الأغراب في لبنان إنما كان يطرح في الوقت ذاته حادثة المصرفي إيليا أبو جودة، كشهادة على حذره وتخوّفه الدائمين.


وتفاصيل الحادثة، كما جاءت على لسان المرحوم إيليا أبو جودة، جرت أثناء وجوده في أحد مستشفيات جنيف حيث كان يخضع للمعالجة بسبب ضعف نظره. وقبل أن تستكمل فترة النقاهة، أبلغته الشرطة أن عليه مغادرة البلاد فوراً لأن وجوده تعدّى نسبة الـ «كوتا» المقررة للزوار الأجانب في سويسرا الاتحادية.

وتمنى محاميه على جهاز الأمن السماح لموكله بتمديد فترة وجوده في جنيف إلى حين الانتهاء من عملية المعالجة الضرورية. وقد عرض المحامي في حينه باسم رئيس مجلس إدارة البنك اللبناني للتجارة (الذي يملك فرعاً في سويسرا) كفالة بقيمة عشرة ملايين فرنك. ولقد قوبل الاقتراح برفض جهاز مراقبة الأجانب، الأمر الذي اضطر إيليا أبو جودة إلى مغادرة جنيف، والعودة إليها بتأشيرة جديدة لا تتخطى شروط تطبيق القانون.

الشاعر سعيد عقل، المفتون بلبنان، اتخذ من تلك الحادثة ذريعة لشنّ حملة إعلامية انتقد من خلالها كل إجراءات المساومة والمجاملة التي تجعل في نظره الجمهورية اللبنانية سوقاً لاحتواء النازحين، باسم مشروع التجنيس. ولقد حافظ على إطلاق نفير الخطر والحذر في مختلف العهود، بدءاً بعهد الرئيس كميل شمعون (1952-1985)... مروراً بعهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964)... وانتهاء بعهد الرئيس شارل حلو (1964-1970).

وكثيراً ما كان يتحيّن فرص انتهاء ولايات الرؤساء من أجل استغلال مناسبات التجنيس، لتذكير اللبنانيين بقصيدة الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) التي ألقيت في بلدة بشمزين الكورانية عقب عملية تجنيس فلول الهاربين من القمع العثماني. وجاء في بعض أبياتها:

لبنان، ما لفراخ النسر جائعة؟

والأرض أرضك أعلاها وأدناها

أللغريب اختيال في مسارحها،

وللقريب انزواء في زواياها

لا لم أجد لك في البلدان من شبه

ولا لناسكَ بين الناس أشباها

أكلما طورد الشذّاذ من بلد

أوما المشير ولبنان تبناها

كأن ما غرس الآباء من ثمر

لغير أبنائهم قد طاب مجناها.

قبل أن تهدأ الضجة السابقة حول أزمة النازحين السوريين، انفجرت قنبلة سياسية جديدة وصلت شظاياها إلى موقّعي مرسوم التجنيس، الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق.

ولقد ألقى القنبلة النائب الكتائبي نديم الجميّل مؤكداً تجنيس 52 شخصاً سورياً وفلسطينياً. ولمّح في بيانه إلى أن هذه الخطوة التي اتخذها الموقعون بإيحاء من دمشق، ليست أكثر من إعداد لمشروع توطين واسع.

ولكن عضو كتلة «الجمهورية القوية» النائب وهبة قاطشيا رفع عدد المجنسين الى أربعمئة شخص، الأمر الذي يفرض على تكتله، إضافة إلى القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، تقديم طعن إلى المجلس الدستوري بهدف إلغاء مرسوم غير قانوني وغير دستوري!

وكان من الطبيعي أن يثير توقيت توقيع المرسوم حفيظة القوى الشعبية اللبنانية التي تذكّر انتفاضتها بالانتفاضة الشعبية في مصر، تلك التي أجبرت الرئيس حسني مبارك على الاستقالة. ذلك أن فتح باب التجنيس قبل أربع سنوات من عمر العهد لا يشير إلى الاطمئنان، خصوصاً أن المرسوم صدر في شكل مفاجئ وبطريقة مبهمة، الأمر الذي شجع المعارضين على استخدام مواقع التواصل للإعراب عن غضبهم. والملفت في الأمر أن غالبية التغريدات التي أرسلت من شبان حرصوا على إظهار صور وجوههم، غير مكترثين بردود فعل الدولة. ويبدو أن عدداً من هذه التغريدات ظهر على شاشات جوالات مسؤولي الدولة، على أمل التنبه إلى خطورة المغامرة الاستفزازية التي تقوم بها الحكومة.

الزعيم الدرزي وليد جنبلاط علّق على مرسوم التجنيس بتغريدة ساخرة قال فيها: «يبدو أن أشباحاً تسلّلت وانتحلت صفة الذين وقّعوا المرسوم. الكل يتنصّل ولا يجرؤ على الاعتراف بأن الدولة تصالحت مع رامي مخلوف!»

ومن أجل خلق نواة كتلة معارضة لهذا المرسوم، اتفق جنبلاط مع سمير جعجع وسامي الجميّل على التصدي لمشروع يحمل بذور فتنة داخلية. والسبب أنه خرج على كل عرف وتقليد كان يمارسه الرؤساء منذ عهد الانتداب الفرنسي، أي مكافأة الذين خدموا لبنان بمواقفهم أو استثماراتهم أو كتاباتهم. وقد شمل هذا التصنيف سوريين من طراز ميشال شيحا وجان فتال وآل صحناوي وآل بساتني وجورج أبو عضل وكثيرين سواهم. كما شمل فلسطينيين من أمثال حسيب صباغ وسعيد خوري ويوسف بيدس، وعراقيين من أمثال نظمي أوجي.

عندما انتقل الحكم في لبنان إلى «عنجر» مع غازي كنعان، تم تجنيس 150 ألف شخص بينهم آلاف السوريين كانوا ينتقلون بالشاحنات إلى لبنان مع كل دورة انتخابية، بغرض التصويت لأنصار النظام.

وفي آخر عهد الرئيس ميشال سليمان، جرى تجنيس 650 شخصاً، لأسباب غير مقنعة.

الملفت في هذا السياق أن وزير الداخلية طلب من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إعادة التأكد من أن كل الذين وردت أسماؤهم في المرسوم يستحقون الجنسية. علماً أن الوزير كان قد طلب من المراجع المختصة، أي من شعبة المعلومات والإنتربول الدولي والشرطة القضائية، التأكد من سلامة سجلات الذين شملهم المرسوم.

والطريف في هذا الأمر أن ردّ الداخلية كان من حيث مضمونه خارج الموضوع. لأن الأسئلة المطروحة تتعلق بمبدأ التجنيس، وبحاجة لبنان إلى مزيد من الغرباء، لا فرق أكانوا من ذوي السمعة النظيفة... أو من ذوي الارتكابات، كما لمحت الصحف. ومَن هي تلك الشخصيات الفذّة التي ينتظرها لبنان لمساعدته على الخروج من محناته الاقتصادية والسياسية؟

تشير المعلومات المسرّبة إلى أن غالبية المجنسين ينتمون إلى النظام السوري، وأن منحهم هذه التسهيلات يصب في مصلحة مقولة قديمة مفادها: وحدة المسارَيْن... ووحدة المصيرَيْن!

ويرى المراقبون أن لبنان الرسمي يستعجل الدخول في نفق مظلم يصعب التكهن بأوضاعه المجهولة. خصوصاً أن الجهات المعنية ببقاء نظام الأسد ليست متيقنة من عملية التطبيق على المدى البعيد. ذلك أن روسيا مهتمة بالمناطق الغربية لأن الموانئ تؤمّن القواعد البحرية لأسطولها. بينما تهتمّ تركيا بالجهة الشمالية خوفاً من حركات تمرّد الأكراد ونزوعهم إلى الاستقلال. أما إيران فيكفيها من سورية السيطرة على المقامات في دمشق وجنوبها، مع الحفاظ على الوسط المتاخم لموقع حلفائها شرق لبنان.

الأسبوع الماضي تقدمت وحدات من القوات الروسية المرابطة في سورية لتنتشر على مواقع حدودية مع لبنان. ويبدو أن خطة الانتشار جرى الاتفاق عليها بين السلطات السورية و «حزب الله.» كل هذا بهدف ضبط الوضع المقلق، وتطمين الولايات المتحدة والأوروبيين وإسرائيل إلى مراقبة الحدود القابلة للانفجار. كل هذا يثبت أن سورية ليست بلداً موحداً مستقلاً تحت إمرة بشار الأسد، وإنما هي دولة مفكّكة تنتظر مشروع مارشال عربياً أو أوروبياً يساعدها على الخروج من محنة طويلة دمرت البلاد والعباد. وكل ما تريده دمشق من لبنان يختزل في طلب إحياء المعاملة السابقة، أي دولة مهيمنة على مقدرات لبنان وقدره، متناسية أنها دولة محتلة عملياً من قِبل ثلاث دول تعامل رئيسها مثلما كانت موسكو تعامل رئيس ألمانيا الشرقية.

السؤال الأخير: أين تصب كل هذه الهموم؟

المراقبون يلمحون إلى احتمال وصول الربيع العربي إلى لبنان خلال الصيف المقبل، على اعتبار أن الضمانات الخارجية لم تعد قادرة على ضمان شباب لبنان الذي تقوده تغريدات وسائط التواصل الاجتماعي!