هاني الظاهري

شيعت السعودية خلال العامين الماضيين جنازة «الصحوة»، وأهالت عليها وعلى أدبياتها البائسة التراب، منطلقة نحو المستقبل الذي رسمته لنفسها بوعي ورؤية طموحة بعد أن استبدلت عباءة تلك المرحلة الظلامية بعباءة سماحة الإسلام الوسطي المعتدل في أكبر عملية جراحية اجتماعية فصلت بين الحق والباطل وحررت صورة الدين من التشويه وتزييف الوعي وغبار التطرف الذي جثم على صدور السعوديين لنحو 40 سنة.

عادت الحياة جميلة في عيون السعوديين، وبدت أحلامهم في الأفق سهلة المنال، وارتفع سقف طموحهم بمستقبلهم ليلامس عنان السماء، لكن كهنة الصحوة لم يموتوا أو يختفوا كما يتصور ذوو النوايا الحسنة، فما زالوا رغم قلتهم جلوسا بين مريديهم، حتى وإن دخل معظمهم في طور «التقية» والانحناء للعاصفة فإن ذلك لا يعني انتهاء جنونهم أو استسلامهم لحتمية توقف مشروعهم، فمن غير المنطقي أن نعتقد أن من أسسوا وأداروا مشروعاً سوداوياً بهذا الحجم واستطاعوا أن يطبقوا على أنفاس الناس طوال أربعة عقود يمكن أن يستسلموا في عامين أو ثلاثة من الإقصاء لفكرهم وهرطقاتهم، وهذا ما كشفته صرخة أحد أشرس كهان الصحوة أخيراً والتي جاءت على شكل كتاب إلكتروني بمسمى «المسلمون والحضارة الغربية» مليء بأغبأ وأتفه ما أنتجه هذا المشروع طوال تاريخه.

صرخة كاهن الصحوة التي وصفتها بـ«الأخيرة»، يتم تداولها اليوم عبر شبكات التواصل بين أيتام المشروع الصحوي المتخفين خلف الأقنعة كمنشور بكائي وداعي منفصل عن الواقع تماما كما هي «الصحوة نفسها»، وليس مستغرباً أن قناة الجزيرة القطرية التقفته كعادتها في ترويج كل منتجات الإرهابيين والمتطرفين في العالم وعملت على تسويقه عبر حساباتها، لكن ما فات هؤلاء أن الواقع الاجتماعي السعودي تغير، وأن السعوديين اليوم ينظرون لهذا المنشور بذات النظرة التي ينظرون بها إلى منتجات تنظيم داعش الدعائية في تويتر ويوتيوب وفيسبوك وغيرها من الشبكات لا أكثر.

والحق أن كل ما في صرخة هذا الكاهن يتطابق تماما مع منتجات داعش الإعلامية فكراً وروحاً ولغة، وهذا أمر يثبت لكل المتشككين أن التنظيمات الإرهابية ليست سوى الوجه الحقيقي لفكر الصحوة المتجرد من الأقنعة، وأن مثل هذا الخطاب وفي هذا العصر ساقط شعبياً بكل ما تعنيه الكلمة، ومن المستحيل أن يجد مؤيداً إلا من الإرهابيين المشردين في صحاري أفغانستان وسوريا والعراق، أو من إخوتهم القلة في الخلايا النائمة. لكن الشيء الجيد فعلا في صرخة كاهن الصحوة الأخيرة أنها تغنينا عن محاولة إقناع الآخرين بمدى جهل وتطرف وإرهاب الصحويين، فهذه الصرخة الوداعية قدمت الصحوة كما هي بكل جهلها ووحشيتها وسوادها، وهذا كاف ليبصق عليها كل من لم يعرفها من قبل.