& عبد الله المدني&

تعج وسائل التواصل الاجتماعي في الفلبين بتعليقات متنوعة تتفاوت بين الجد والهزل، والتأييد والاعتراض بسبب إعلان رودريجو دوتيرتي رئيس الجمهورية المثير للجدل، خلال خطاب ألقاه أخيرا في إقليم "ماندناو" رغبته في تغيير اسم البلاد من "الفلبين" إلى "مهارليكا". وعلى الرغم من أن الرغبة الرئاسية لن تتحقق بين عشية وضحاها كونها تحتاج إلى إجراءات وتغييرات دستورية كثيرة، وربما تتطلب استفتاء شعبيا مسبقا، فإنها أثارت ولا تزال تثير كثيرا من ردود الأفعال الشعبية.
في الأسباب، قيل إن دوتيرتي يسعى إلى تغيير اسم البلاد من منطلق الاعتزاز بحقبة ما قبل الاستعمار الإسباني، كما قيل إنه ينطلق من رغبة عارمة في ضرورة إيجاد هوية وطنية خالصة لبلاده بدلا من هويتها المشتتة بين الحقب الكولونيالية التي خضعت لها. فعلى العكس من تايلاند المجاورة التي لم تستعمر قط، وبالتالي يعتز شعبها بنقاء هويته وحضارته الممتدة عبر آلاف السنين، فإن الجزر الفلبينية، البالغ تعدادها أكثر من 7100 جزيرة، تعرضت لحملات مختلفة عبر تاريخها القديم والحديث، ما أثر في نقاء هوية سكانها. ففي القرن الـ12 الميلادي دخلها التجار والسلاطين المسلمون انطلاقا من ولاية جوهور الماليزية وأسسوا لهم مملكة مسلمة في جزيرة "سولو" ثم أسسوا في أواخر القرن الـ15 مملكة مشابهة أخرى في جزيرة "ماندناو". وهاتان المملكتان راحتا تتمددان وتنشران الإسلام في أقاليم أخرى، خصوصا بعدما دخل سلطان بروناي في الإسلام وأعلن خضوع بلاده لسلطة الخلافة الإسلامية. غير أن التنافس وطموحات التوسع وبناء النفوذ الشخصي سرعان ما تسبب في انقساماته وصراعات بين الممالك المسلمة، الأمر الذي سهل سيطرة الإسبان عليها، وبدء حقبة الاستعمار الإسباني الذي دام ما يقارب 300 عام.

والمعروف تاريخيا أن هذه الحقبة بدأت عام 1521 بوصول المستكشف البرتغالي فرديناند ماجلان إلى شرق "سامار" على رأس أسطول إسباني. وفي عام 1543 أطلق المستكشف الإسباني "روي لوبيز دي فيلالوبوس" على جزر ليتي وسامار اسم "فلبيناس" تيمنا باسم الأمير فيليب ولي عهد إسبانيا "الملك فيليب الثاني لاحقا"، ثم& استخدام الاسم في نهاية المطاف ليغطي كل جزر الأرخبيل. ومن الجدير بالذكر هنا هو أن عام 1565 شهد وصول "ميجويل لوبيز دي ليجازبي" من المكسيك ليؤسس في الأرخبيل الفلبيني أول مستوطنة إسبانية، وليصبح الأرخبيل بعدها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية مع انتشار الكاثوليكية كدين غالب، علاوة على انتشار ثقافة غربية هجينة.
وبانتهاء حقبة الاستعمار الإسباني& كنتيجة لثورة قادها الفلبينيون، معطوفة على انخراط الولايات المتحدة في عملية تحجيم النفوذ الإسباني في الأمريكتين وأعالي البحار، ناهيك عن تنازل إسبانيا عن الجزر الفلبينية للولايات المتحدة مقابل 20 مليون دولار بموجب معاهدة باريس لعام 1898، بدأت حقبة الاستعمار الأمريكي التي دامت 48 عاما تخللتها الحرب الأمريكية - الفلبينية الدموية 1899-1902 وحقبة الاحتلال الياباني 1941-1945، وما رافق الحربين من أمراض ومجاعة وقسوة قضت على مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين. وبعد انتهاء الحرب الكونية الثانية نالت الفلبين استقلالها وعرفت مذاك باسم "جمهورية الفلبين".

قلنا إن دوتيرتي اختار "مهارليكا" Maharlika كاسم جديد مقترح لبلاده، بل فسرها لشعبه بالقول إنها كلمة جذورها من لغة الملايو وتنطوي على مفهوم الصفاء والسلام. والحقيقة أن الكلمة بالفعل ذات جذور ملايوية، لكنها تشير إلى طبقة المحاربين التي كانت تعاون الطبقة الحاكمة في حقبة ما قبل الاستعمار الإسباني. وكان ديكتاتور البلاد الأسبق "فرديناند ماركوس" سبق دوتيرتي في الترويج لهذا الاسم من خلال إطلاقه على قاعة رئاسية وطريق يربط شمال البلاد بجنوبها، بل إن أحد أعوانه وهو "إيدي إيلاردي" عضو مجلس الشيوخ اقترح عام 1978 إطلاقه على البلاد من باب احترام التراث القديم للأمة في حقبة ما قبل الاستعمار الغربي. وقتها قيل إن ماركوس يحاول من خلال استخراج الكلمة من بطون التاريخ أن يضفي شيئا من المظاهر الملكية على حكمه، وقال آخرون إنه طالما يتعلق الاسم بطبقة المحاربين فإن ماركوس يريد من ورائه تخليد تجربته المزعومة كقائد ناجح لوحدة من وحدات العصابات المقاتلة أثناء الحرب العالمية الثانية كانت تدعى أنق مقا مهارليكا "طبقا للفظها بلغة التقالوق الفلبينية". هذا علما أن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية نشرت عام 1986 تقريرا نفت فيه وجود وحدة مقاتلة في الحرب العالمية الثانية حملت ذلك الاسم، لكنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن بعض قدامى المحاربين الأمريكيين ممن عملوا في الفلبين كشفوا في تحقيقات جرت معهم سنة 1950 قابلوا أشخاصا زعموا انتماءهم إلى فريق كان يحمل اسم "مهارليكا"، وأن هؤلاء ارتكبوا فظائع بحق مواطنيهم خلال الفوضى التي سادت فترة الحرب.
والحال: إن مصطلح "مهارليكا" أيا كان معناه، وبغض النظر عن جذوره ودلالاته، صار مرتبطا بالرئيس الأسبق ماركوس وأعوانه الذين لا يزالون يستخدمونه كمرادف لاسم البلاد. وهذا في حد ذاته يمثل حجر عثرة أمام مقترح دوتيرتي، لأن نسبة معتبرة من الفلبينيين تريد نسيان حقبة ماركوس وكل ما يتصل بها من فساد وانتهاكات لحقوق الإنسان وتقييد للحريات.

&