& محمد آل عباس
&
في سعيها نحو الخلود والرفاهية سارت البشرية على هذه الأرض البسيطة، وعمرتها أجيالا بعد أجيال وقال الله جل وعلا عنهم: (وعمروها أكثر مما عمروها) أي: إن كل جيل ينافس الجيل الذي قبله وبعده في هذه العمارة، والبناء ويستخدم كل الموارد المتاحة له بحثا لا يكل عن ذلك التميز الذي يجعل منه الجيل الأولى بالرعاية.
للفهم ودراسة التجارب، لك أن تتصور معي طريقا يبلغ طوله 1.5 كيلومتر فقط (1500 م) تقريبا، يربط وسط مدينة أبها الحالمة بمدخلها الجنوبي، تتراص على جنباته المحال التجارية المتنوعة والحدائق الرائعة، يربط ذكريات أجيال المدينة القديمة بعضها بعضا كلما عبرت مدخلها الجنوبي قادما من متنزهات الفرعاء أو البحر، ومررت بأسواقها حتى ينتهي بك المنظر وأنت تشاهد منارة القصبة المرتفعة ودوار أبها الأشهر في الوسط، لينقلك الطريق بعدها بتفرعاته إلى أحياء أبها في موكب مهيب من المنازل القديمة تشعرك بدفء وهيبة وجمال المكان مع اقترابك رويدا رويدا من وادي أبها القديم بتاريخه وجسوره وزهور بساتينه وأشجاره الفاتنة.
فجأة أفاقت المدينة الصغيرة على "التطوير والتوسعة والتغيير والتحسين" حتى تم لها إقرار مشروع لتوسعته هذا الطريق "1500 م" وإنشاء جسر على المدخل الجنوبي، مع إزالة منارة القصبة ودوارها في الوسط وإغلاق كل الطرق الفرعية التي تقود إلى الأحياء القديمة ووادي أبها الجميل، وهذه التوسعة تطلبت إزالة عديد من المباني والمحال التجارية. واليوم، كاد المشروع ينتهي مع انتهاء الجسر الجنوبي وأعمال الطريق، وتحولت الأحلام بتوسعة جبارة ومدخل رائع للمدينة إلى مجرد رصيف شكله غريب، في وسط ركام من بقايا المباني، ودوارين لا معنى لهما، مع انهيار للأعمال التجارية في جانب الطريق الأيمن. واليوم يقف كل من مر بهذا الطريق ليسأل، أين جمالك يا أبها؟ وأين التاريخ، وذكريات الأجيال؟ وأنا أسال أين ذهبت الموارد الضخمة ولماذا؟ هكذا دوما تنتهي بك رحلة الجودة.
لن تقاس تكلفة توسعة الطريق فقط بحجم الموارد المالية التي أنفقتها الدولة على هذا المشروع، وإذا اعتبرنا أن المبالغ المالية المباشرة قد وصلت إلى ما يقارب أربعة مليارات ريال "مع تكلفة تنفيذ الطريق"، منها موارد ليست مادية بل قيما تاريخية وإنسانية وحضارية بعضها قد لا يقدر بثمن، ثم أضف إلى ذلك تكلفة الفرصة البديلة، وهي تكلفة ضياع فرصة استثمار هذه المبالغ الضخمة، مثل استكمال المدينة الطبية، أو توسعة المطار، أو عقبة شعار مثلا أو إنشاء عقبة جديدة، أو حتى إنشاء شبكة قطارات في المنطقة، ولفهم ضخامة هذه التكلفة "تكلفة الفرصة البديلة" عليك أنت تعلم أن عاصمة أوروبية شرقية أنشأت شبكة قطارات تحت الأرض حتى تحافظ على المدينة القديمة وبقيمة أربعة مليارات ريال فقط، ولم تمس أي منزل قائم أو شارع قديم بل أضافت قيمة حضارية أساسية.
وللعودة إلى السياق، فإن هذا المقال لم يكن يهدف إلى إثارة الأسئلة بشأن هذا الطريق في أبها. ولو تمت مناقشة الموضوع من جانب المخاطر، لكانت الجودة والذين يفكرون من خلالها في اعتماد المشاريع أهم. كثير من المشاريع لا يتم إقرارها من خلال مناقشة دقيقة لحجم المخاطر التي تعالجها، مناقشة تصل إلى حد قياس احتمالات الحدوث وقيمة التأثير، ومن ثم تحديد حجم الإنفاق الأمثل للموارد "أي بقدر ما نحد من هذه المخاطر وليس من أجل الوصول إلى التحسين والرفاهية الزائفة"، وكي أضرب مثالا بالطريق الذي أشرت إليه، فإن أكبر المخاطر التي كانت تواجه الناس هي الازدحام الشديد في منطقة المدخل الجنوبي، بسبب تلاقي عدة طرق ومسارات مختلفة، وكان يمكن معالجة هذه المخاطر دون هدر للموارد ولا هدم للمنازل أو إتلاف القيم الحضارية، وكان يكفينا إنفاقا من الموارد بقدر ما يكفي لتخفيف حدة الازدحام وخطره، ذلك أن هدر الموارد دون حساب ولا جدوى بتعظيم منافعها في المستقبل هو ذاته خطر كبير كما أشرت، فوجود ازدحام في فترة الذروة أمر مزعج ومكروه. وللحديث بقية.
التعليقات