أنا عاشق قديم لاسطنبول إلى حد أنني بعد عشر سنوات من بدء زياراتي المهنية لها ولتركيا كصحافي أصدرت ديواني الشعري الأول عام 2002 تحت عنوان: “قصيدة اسطنبول”، القصيدة التي استغرقت أكثر من نصف الديوان وكتبتُ معظمَها على دفعات في الكافيتيريا المفضلة لديَّ وهي كافيتيريا فندق مرمرة في ساحة تقسيم في الجزء الأوروبي الحديث من اسطنبول الذي يتفرّع منه الشارع التجاري السياحي الأكثر اكتظاظاً في المدينة.
لم أستطع تلافي أن أصبح نوعاً من المبشرين بحداثة التجربة التركية في خروج عن مهمتي كمراسل ومعلّق. لست المراسل الأول الذي يعشق مدينة ولكني كنتُ من قلة قليلة في العالم العربي، معظمها زملاء ومثقفون مصريون وبعض اللبنانيين والعراقيين والسوريين والأردنيين والتوانسة الذي يتحوّل إلى ناشط في سياق الاهتمام بكون الإسلام التركي كما بدا في العشرية الأخيرة من القرن العشرين، أي في التسعينات المنصرمة، الإسلام الوحيد الذي يتوقف على نجاحه أو فشله، كلُ مصير علاقة الإسلام المعاصر بالحداثة. وهي، أي هذه العلاقة بالحداثة في العالم المسلم، ماعدا استثناءات، قصة حزينة حتى الآن. كان ذلك في تركيا علمانية و كانت تبدو أنها تتقدّم تحديثياً بفرعي الحداثة: الديموقراطية والاقتصاد.
كل هذا الرهان دمّره رجب طيب أردوغان وحزبه . فلا حداثة من دون ديموقراطية هي نفسها، التي درّبتْ أردوغان بين السجون والشوارع والبرلمانات ليصل إلى السلطة عبر الانتخابات ويحطّم لاحقاً كل معارضة في أي مجال، مسيطراً على الجيش والقضاء والإعلام والاقتصاد ومحوِّلاً الشرطة التركية إلى نوع من ميليشيا في المدن.
إذن خرجتُ من تجربة تغطيتي الطويلة للشؤون التركية بين 1992 و2016، ولاسطنبول الرائعة بخيبة أمل شخصية ضاعفها أن العديد من زملائي وأصدقائي الأتراك أصبحوا إما في السجون أو في المنافي. لقد أنهى أردوغان الحياة المهنية لجيلين من الصحافيين الأتراك.
خسرنا الرهان. ولا زلنا نخسر.
لا يعبّر عني أكثر من قصيدتي. لن أستعيدها هنا طبعاً. لكن الجامع الأزرق جامع السلطان أحمد المواجه عن بعد لكنيسة آيا صوفيا على تلك الساحة الشاسعة من قلب اسطنبول الأوروبية هو من الأمكنة التي كنت أستكين إلى إحدى زواياها بين الحين والآخر صامتا متأملاً أو قارئاً لكتاب أو صحيفة مثلما كنتُ أفعل في ساحة المسجد الأموي في دمشق على المصطبة الخشبية التي يستريح عليها الحمام المتنقل بين سقوف المكان العاري.
كنت أزور آيا صوفيا العملاقة. ومراراً ما لفتُّ نظرَ أصدقاء عربٍ إلى السقف داخلها الذي لا تزال تزينه الرسوم البيزنطية المسيحية الباقية، إلى أسماء مقدسة مسلمة بعد تحويلها إلى مسجد إثر سقوط القسطنطينية عام 1453. هناك إلى اليوم يطالع الزائر في أعلى القاعة الواسعة فيها أسماء بارزة الحجم: محمد، أبوبكر، عمر، عثمان، علي، فاطمة، الحسن والحسين. إنها أحد تقاليد الإسلام الحنفي الذي يبجّل النبي وخلفاءه وآل بيته في ترتيب له معنى مهم في زمن الفتنة السنية الشيعية الراهن ولا ينتبه إليه كثيرون تعميهم الأفكار الفتنوية المسبقة عند الشيعة كما السنة.
سأقفل الآن "الملف" السني الشيعي لأبدأ بالملف الأرثوذوكسي الكاثوليكي. ولا زلنا داخل الكنيسة المتحف سابقاً.
ما لا ينتبه إليه كثيرون من زوار آيا صوفيا وجود قبر داخلها لشخصية كاثوليكية غاية في الأهمية التاريخية للكنيسة والمدينة وفي التاريخ الأوروبي عموما. إنه الدوق (Doge) إنريكو داندولو الدوق ال 41 للبندقية (Venice) الذي تمكّن عام 1203 من قيادة حملة صليبية رابعة كان من المفترض أن تتوجه إلى مصر لكسر الدولة الأيوبية ومن ثم استعادة القدس. في خدعة غيّرت مجرى التاريخ نجح داندولو في توجيه الحملة الأوروبية إلى القسطنطينية عاصمة بيزنطية وحاصرتها شرقا بدل ذهابها جنوباً ثم أسقطتها.
في عمل بحثي ممتع يجمع بين التأريخ الجدي والموثّق على أعلى مستوى وبين التجوال المباشر في الجغرافيا تصف جان موريس في كتابها: "أمبراطورية البندقية: رحلة بحرية" عنف ووحشية نهب وإحراق القسطنطينية على يد الأوروبيين الكاثوليك الآتين من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا و غيرها والذين كانوا تجمّعوا في البندقيّة المموِّلة للحملة. قرأتُ الكتاب خلال وجودي العام المنصرم في عطلة مع العائلة في أثينا وجزيرة أجيستري. كان عنف لا يوصف حطّم كل معالم المدينة الأمبراطورية الأرثوذوكسية وأحرقها ودخل على كنيسة آيا صوفيا وعبث فيها. فعل داندولو ذلك رغم أنه كان قد أصبح أعمى مع تقدم السن. تقول جان موريس أنها عندما لاحظت أمام أحد الباحثين في التاريخ البيزنطي أنه من النادر أن يزوره أحدٌ هذه الأيام فأجابها "لو كنت سأزوره فلكي أبصق على قبره". وتكتب جون موريس أن " اليونانيين (البيزنطيّين)، لم يغفروا قط للبندقيين إحراق القسطنطينية و نظروا إليهم دائما أنهم مسبّبو هذه المأساة. البندقيون أنفسهم فكّروا وأخذوا في الاعتبار تغيير عاصمتهم وجعلها القسطنطينية - مدينتنا الحقيقية- كما تصفها وثيقة بندقية رسمية. لكنهم خسروا حصتهم في السيادة عليها، كذلك بطريركيتهم عندما عاد الملوك اليونانيون واستلموا السلطة في القسطنطينيّة عام 1261”.(ص43 منشورات Penguin Book 1990). سيتوفى داندولو في التسعينات من عمره وسيندثر أي أثر للحي البندقي في المدينة البيزنطية خلافا لبعض الآثار الباقية في جزر يونانية قليلة.
حقد هذا الباحث على داندولو يعكس وجهة نظر واسعة يتبناها مؤرخون مسيحيون وغربيون عديدون وهي أن سقوط القسطنطينية الأول على يد حملة الدوق داندولو هي التي جعلت عاصمة الأمبراطورية ضعيفة إلى غير رجعة لقوتها السابقة. وهذا ما سمح للحملة العثمانية المسلمة بإسقاطها نهائياً بعد مائتين وخمسين عاما شهدت أمبراطورية جمهورية البندقية خلالها ذروةَ قوتها وازدهارها وهي التي كانت تحتل كل الجزر الممتدة بين البندقية والشاطئ السوري وخصوصا الجزر اليونانية من كورفو مروراً بجزيرة كريت إلى جزيرة قبرص. تلك الأمبراطورية التي ستزدهر في التجارة وستسيطر على البحر الأبيض المتوسط قروناً عدّة قبل أن يتمكّن العثمانيون من السيطرة على معظم جزره و شواطئه حتى القرن الثامن عشر.
لن يهدأ الجرح التاريخي العميق الذي تمثله آيا صوفيا والذي يعيد تحريكَه قرار الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان بإعادة تحويلها إلى مسجد، في زمن الأصوليات.
إنه الجرح الجاهز للنزف كيفما قلّبته في مدينة مئات المساجد وبعضها من أفخم وأعرق مساجد العالم المسلم..
كتب لي والدي (الراحل) على بطاقة بريدية أرسلها لي عام 1964 من اسطنبول عندما زارها للمرة الأولى عائدا من باريس بعد تحضيره للمرحلة الأولى من الدكتوراه في الحقوق: "في هذه المدينة بين كل مسجد ومسجد هناك مسجد، ولا تسمع آذاناً واحداً باللغة العربية". كان قد جرى تتريك الآذان في عهد أتاتورك، وتلك أول ملاحظة شخصية أسمعها عن داخل اسطنبول وكنت لا أزال على مقاعد الدراسة التكميلية في عمر الإثني عشر عاما. بالنسبة لوالدي المسلم ابن العائلة الدينية لم يكن يتصور أنه سيسمع آذاناً ينطلق من مئذنة جامع ولا يكون باللغة العربية. (كالكثيرين من جيله، كان والدي منفتحاً سجّلني في مدرسة للراهبات -المعونة الدائمة - في سنوات دراستي الابتدائية الخمس الأولى. سنواتٌ خمس لا أزال أدين لها بالكثير).
لا يعوز اسطنبول مساجد. كان يمكن أن تفتح آيا صوفيا لصلاة المسيحيين والمسلمين معا. لكن أعمق جروح التاريخ هي الجروح الدينية. كمسلم أبحث عن رموز اعتدال أينما كان في هذا العالم الخطر. لا تنقصنا رموز القطيعة. وإذا كان الصراع الديني حقيقة تاريخية فليس من المفيد تجاهله لكن الأهم هو أن من الجناية القصوى البحث عن إحيائه. خصوصا أننا في منطقة يهددها التعصب من كل جهة خصوصا في القدس التي تتعرض للتهويد.