الاشتباكات في المناطق المتنازع عليها بين فترة وأخرى أمر وارد، لتسجيل موقف وتعديل موازين القوى، وإرسال إشارات للطرف الآخر. أمر يمكن قبوله، خصوصاً في المناطق التي لم تحسم بالاعتراف الدولي بمنحها هوية مستقلة. لكن الأمر يختلف إن تحولت مثل هذه القضايا الصغيرة إلى ساحات لتصفية حسابات دول أكبر منها، وبالنهاية لن تحل القضية الأساس، لأنها ليست الهدف، لكنها ستصبح الضحية.
إقليم ناغورني قره باخ من ضمن الأراضي التي لم تعترف بها الأمم المتحدة بضمها إلى أحد الفريقين المتنازعين؛ أرمينيا وأذربيجان. ولها تاريخ من النزاعات قد لا يهم التوغل فيه، عدا عن ذكر أن هاتين الدولتين من دول منطقة القوقاز التي تعتبرها روسيا من إرثها الجغرافي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. وترى موسكو أنه نزاع ضمن نفوذها، لكنها مع فرنسا والولايات المتحدة ساهموا إلى دفع الطرفين لتوقيع معاهدة في 2008 تقضي إلى الحل السلمي للنزاع، من خلال تشكيل مجموعة «مينسك» التابعة لمنظمة التعاون والأمن في أوروبا. المتغير الحالي الحاصل هو التدخل التركي المفاجئ! والذي أثار موجة تساؤلات..!
تركيا اتخذت استراتيجية فتح جبهات متعددة مستغلة موقعها الجغرافي، شرقاً وغرباً وجنوباً، ولها أهداف سياسية واقتصادية.
تركيا دخلت ليبيا من أجل الطاقة، لكنها حتى اليوم لم تستطع دخول مدينة سرت النفطية، واكتفت بتشغيل شركاتها في الموانئ التي تسيطر عليها الحكومة غير الشرعية. في قبرص، لم تستطع سفن التنقيب التركية الاستمرار في عملية البحث عن الغاز بعد أشهر من التطفل، لأن واشنطن أبعدتها وحلت مكانها. ورقة اللاجئين التي تهدد بها أوروبا تلوح بها، لكن الاتحاد الأوربي يساند اليونان في حماية حدودها، وتبعه الموقف الأممي. في شمال سوريا لم تستطع تركيا هزيمة الأكراد، ولا تلويث العلاقة بينهم وبين واشنطن التي تعتمد عليهم من خلال «قوات سوريا الديمقراطية» في تعقب وطرد عناصر تنظيم «داعش». كما أن الأكراد في شمال العراق، رغم كل اعتداءات أنقرة، لا يزالون متماسكين والحكومة العراقية بدأت تهدد بتصعيد الهجمات التركية دولياً. كل هذه الملفات وصلت أنقرة إلى قيعانها، ولم تنجح في الخلاص منها، فلماذا تندفع للتدخل عسكرياً اليوم في وحل جديد؟
تركيا تريد أن تكون رقماً مهماً في اللعبة الدولية، ليس في بسط وجودها في مناطق متنازع عليها فقط، بل فتح جبهات متعددة في الوقت نفسه مع الأوربيين والعرب والروس كقوى لها نفوذها في مناطقها. العرب سجلوا احتجاجاً وتنديداً على تدخل تركيا في ليبيا، ومحاولة نهب مقدراتها، والأوربيون كذلك يراقبون عن كثب تحركات القطع البحرية التركية شرق المتوسط. هدف أنقرة من هذا كله في رأيي هو وجود عسكري تركي من خلال بناء قواعد عسكرية في كل هذه الجهات المترامية الأطراف. تحقيق هذا الهدف يجعلها دولة معنية وطرفاً رئيسياً في أي مفاوضات لأي من هذه الملفات، مثل أي دولة في مجموعة «مينسك»، بجانب واشنطن وموسكو وباريس. يساعدها في ذلك عاملان مهمان؛ الأموال التي تصلها من حلفائها القطريين، أو تطفلها على مناطق الطاقة في البحار، إضافة إلى السوريين الذين اشترتهم بهذا المال، ليكونوا جنوداً لها وسط الاحتراب، أي إخطبوطاً بأيدي أجنبية.
إقليم كاراباخ مساحة أرمينية داخل الأرض الأذربيجانية، معظم سكانها من الأرمن، القومية التي انتهكت حقوقها الدولة العثمانية قبل سقوطها في الحرب العالمية الأولى، وارتكبت بحقهم مجازر لكنها تنكرها رغم الأدلة ورغم اعتراف مزيد من الدول بها. المشكلة التي تواجه تركيا هنا هم الروس، ليس فقط لأنها داعمة لأرمينيا عسكرياً، لكن كونها جزءاً من منطقة القوقاز التي تهيمن عليها، لذلك لا يمكن لتركيا أن تذهب بعيداً. من جهة أخرى، الأراضي الأرمنية تضم إقليم ناخيتشيفان الأذري، ورغم أنه يمتلك حكماً ذاتياً إلا أن الأذريين يعتبرونه تابعاً لهم، ولأنه محاذٍ لتركيا، فهو المرجح لأن يكون نقطة ارتكاز تركية عسكرية لدعم أذربيجان، وبالتالي تكون المعركة الفعلية ليست بين أذربيجان وأرمينيا، بل بين كاراباخ وناخيتشيفان.
السؤال الأهم؛ ماذا ستفعل روسيا إزاء هذه التطورات الأخيرة؟ أعتقد أن روسيا ستتريث لترى أين سيصل الحال بالرئيس التركي. إردوغان كذا يتقدم ببطء ترقباً لأي موقف روسي مفاجئ، والأغلب أن الأمر سيكون محل مفاوضات تعيده لوضع السكون، وستظل تركيا معلّقة كما هي حالها في بقية الملفات.