لم تكن هذه بداية العام الجديد التي تصوَّرها بوريس جونسون. فبعد أسابيع فقط من رهان العالم الغربي على اعتماد اللقاح الأول ضد فيروس «كوفيد» وإطلاق حملة تلقيح ضخمة، تُرك رئيس الوزراء وحيداً ليعلن رسمياً أن المملكة المتحدة تواجه لحظة «محفوفة بالمخاطر».
تذكرنا تحذيراته في أول إغلاق عندما طالب البريطانيين بضرورة حماية «هيئة الصحة الوطنية» من الهزيمة أمام الوباء، ثم نجحت جهودهم لاحقاً. هذه المرة من المرجح أن تكون أقرب من سابقتها بكثير. ففي حين أن برنامج التطعيم سيوفر الإغاثة، فإنَّ الخدمة الصحية الزائدة التي ستوفر العديد من الجرعات لن تؤدي إلا إلى إبطاء العملية وإطالة قيود الإغلاق وتعريض المزيد من الأرواح للخطر.
تتركز الضغوط المباشرة في لندن، وهي المكان الذي يجب أن يكون أكثر قدرة على التعامل مع الطلب المرتفع على الخدمات الطبية. ومؤخراً، أعلن رئيس بلدية لندن ما وصفه بـ«الحدث الكبير»، وهو ما يعادل حالة طوارئ وطنية في العاصمة. من شأن هذه الخطوة أن تطبق المزيد من صلاحيات التنسيق، لكنها تتعلق أساساً بمطالبة سكان لندن بالبقاء في منازلهم. فقوة إرسال الرسائل هذه أهم أداة يمتلكها المسؤولون العموميون الآن.
هناك أكثر من 30 ألف مريض بـ«كوفيد» في المستشفيات في إنجلترا، مقارنة بنحو 18 ألف مريض في ذروة الموجة الأولى في أبريل (نيسان). وتمتد أوقات انتظار سيارات الإسعاف - عادة دقائق - إلى ساعات في بعض الحالات. ويعد معدل الإصابة في لندن أسوأ من باقي أنحاء البلاد، حيث يُقدر أن 1 من كل 30 من سكان لندن (وأن واحداً من كل 20 في بعض المناطق) مصاب بالفيروس، مقارنة بواحد من كل 50 على المستوى الوطني.
الضغوط نفسها التي تواجه لندن هي ذاتها في أجزاء أخرى من البلاد أيضاً: فهناك نوع جديد شديد العدوى من الفيروس، وفي الوقت نفسه إغلاق أقل صرامة مما كان عليه في الربيع الذي جاء متأخراً أيضاً.
يميل الجمهور إلى تفسير القواعد بشكل أكثر مرونة في هذا التوقيت. لكن ذلك ينطوي على مؤشر لمدى السوء الذي وصلت إليه الأمور حتى أن المتشككين الأكثر ضجيجاً تجاه إغلاق بريطانيا، وخاصة في حزب المحافظين بزعامة جونسون، أصبحوا هادئين إلى حد كبير. فقد قلل الرافضون للإغلاق على وسائل التواصل الاجتماعي من خطر نفاد الأسرة من المستشفيات، رغم خطورة هذا النقص.
تبلغ نسبة إشغال أسرة المستشفيات في الوقت الحالي ما يقرب من 90 في المائة في لندن، وهي نسبة لا تختلف كثيراً عن أجزاء أخرى من البلاد. في باريس، وهي مدينة ذات تعداد سكاني مماثل، يبلغ معدل إشغال العناية المركزة حوالي الثلثين.
في مقارنة عقدتها وزارة هيئة الصحة الوطنية البريطانية في أفضل حالات الوباء وحتى عند استخدام السعة الاحتياطية لمستشفى «نايتينغيل»، فإن لندن ستعاني عجزاً يقدر بنحو 2000 سرير (بما في ذلك أسرة العناية المركزة) بحلول 19 يناير (كانون الثاني). وفي أسوأ السيناريوهات، سيصل النقص إلى 4400 سرير.
جادل البعض بأنَّ معدل إشغال الأسرة مرتفع منذ فترة طويلة، خاصة في فصل الشتاء، ومع ذلك فإنَّ كل ما يظهر هو أن ذلك يعد ضعفاً منهجياً يمكن رؤيته قبل الوباء. ورغم أن لندن تتمتع بمستوى مرتفع في العديد من جوانب بنيتها التحتية للرعاية الصحية، فقد عانت من قصور في مقياسين مهمين أثناء الجائحة: أعداد الأسرة وطواقم التمريض. فهذا ليس بالنقص الذي يمكن إصلاحه بسرعة. حتى إذا أضفت أسرة إضافية، فأنت بحاجة إلى ممرضات لخدمتهم. ومما زاد الطين بلة هو أن حوالي 46000 من موظفي المستشفيات قد توقفوا عن العمل بسبب مرض «كوفيد 19» في جميع أنحاء البلاد. ورغم أن العاملين في مجال الرعاية الصحية يجري تلقيحهم، فإنَّ اللقاح يستغرق أسبوعين لتوفير المناعة في الجسم، وسيستغرق الأمر وقتاً قبل أن يتلقى الجزء الأكبر من موظفي هيئة الرعاية الصحية اللقاحات. ورغم أن الفيروس - وخاصة الجديد المتغير - هو السبب المباشر لحالة الطوارئ اليوم، فإن الجذور تعود إلى عقود من الزمن حين قطعت الحكومات المتعاقبة التمويل وأخذت من الميزانية الرأسمالية لتغطية تكاليف التشغيل وتقليل عدد أسرة الوزارة.
كشف تحليل أجراه مركز «نتفيلد ترست» عام 2016 أنَّ أكثر من 95 في المائة من أسرة المستشفيات كانت قيد الاستخدام في ذلك الشتاء. وفي العام التالي، حذر تقرير صادر عن «كينغز فاند» من أنَّ المستشفيات في إنجلترا بها عدد أسرة أقل لكل 1000 شخص من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي: 2.3 مقارنة بمتوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 3.7.
إنَّ إصلاح تلك المشكلة طويلة الأمد يجب أن يكون بالتأكيد أولوية بعد الجائحة. ولذلك، فإنَّ جونسون يمشي على حبل مشدود، بمعنى أنه إذا امتلأت المستشفيات، فسيتلقى اللوم لعدم منع هذا العدد من الوفيات، في وقت كان اللقاح في متناول اليد. وإذا تجنب الأسوأ، فستعود الضغوط عليه لمطالبته بتخفيف قيود الإغلاق. ولذلك قد يضطر جونسون إلى تشديد القيود رغم أنَّه يأمل في الوقت الحالي أن يؤدي المزيد من إجراءات إنفاذ القانون إلى تغيير السلوك.
أثار البعض الأمل في أن مزيج العدوى واللقاحات سيعني الوصول إلى مناعة القطيع في وقت أقرب، مما يقلل من فرص تكاثر الفيروس ويسمح برفع القيود عاجلاً. لكن من المحتمل أن تتطلب مناعة القطيع معدلات إصابة أعلى بكثير مما نراه، خاصة مع المتغير الجديد، ولم يتضح بعد إلى أي مدى يمكن للقاحات الجديدة أن تحد من انتقال العدوى.
إنَّ برنامج التطعيم آخذ في الازدياد، ونأمل أن يؤدي ذلك إلى تمكين المدارس من إعادة فتح أبوابها في فبراير (شباط) أو مارس (آذار) لكن رفع الجزء الأكبر من القيود في وقت مبكر جداً يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، حيث سيتخلى الناس مرة أخرى عن حذرهم وسيعيدون الحلقة المفرغة من العدوى. لهذا السبب من المحتمل أن نسمع لغة أكثر حدة مثل «حدث كبير» ولحظات «محفوفة بالمخاطر».
يعتبر الوقت الحالي هو الأفضل للحكومة لاستخدام تلك الأدوات أثناء طرح اللقاحات الجديدة. ولذلك، بدلاً من الحفاظ على الهدوء والاستمرار، يحتاج جونسون إلى إصابة الناس بالذعر قليلاً ودفعهم للبقاء في المنزل لفترة أطول.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»