تحمد الله مليون مرة أنك لم تولد ولم تعش في مدينة ليمريك الإيرلندية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، لأنها ربما كانت من أكثر المدن بؤسا في العالم، كما رسمها الكاتب فرانك ماكورت في كتابه الشهير "رماد أنجيلا"، الرواية التي روى فيها سيرة طفولته وصباه.

الكاتب الذي تأخر إلى عمر الستة والستين لنشر أولى أعماله، لم يتوقّع أن تمنحه ذكرياته السيئة والحزينة كل ذلك النجاح والشهرة، إذ نال عنها جائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية، ثم جائزة بوليتزر سنة 1997، وبعدها بسنتين حولها المخرج آلان باركر إلى فيلم نال الكثير من الجوائز التي رفعت من رصيد شهرته، رغم فشله في شباك التذاكر أمام أفلام أقل كآبة.

فقد فرانكي في البداية أخته الرضيعة، ثم أخويه التوءم، بسبب الجوع والبرد والأمراض، وفقد والده حين تخلّى عنهم نهائيا بسبب إدمانه وعدم تمكنه من إيجاد عمل قادر لإعالتهم، ثم فقد أول فتاة أحبها بسبب مرض السل الذي أودى بحياتها، وكاد هو نفسه أن يفارق الحياة حين أصيب بالتيفوئيد، ولكنه نجا بأعجوبة بعد أن حقنه الأطباء بدماء جندي شجاع!

تميز مجتمع ليمريك بالتزمت الديني المبالغ فيه كما أغلب الشعب الإيرلندي آنذاك، وقد عانى الطفل فرانكي الحساس من قسوة كل من حوله، بدءاً بجدته النّاقمة على تربيته الدينية الناقصة، إلى التنمر الشرس الذي تعرّض له في المدرسة من قبل بعض أساتذته، وأغلب زملائه، كان بالنسبة لهم الأميركي قليل الإيمان الذي أنزل به الله كل أنواع اللعنات عقابا له.

عمل ماكورت في طفولته بإيصال فحم التدفئة للبيوت، وكاد يفقد عينيه بسبب هذا العمل، ثم مارس أعمالا أخرى لمساعدة والدته، قبل أن يجد وظيفة ساعي بريد فتحت له باب الحظ على مصراعيه حتى تمكّن من شراء تذكرة مكنته من ركوب البحر والهجرة إلى أرض الأحلام "أميركا".

بعد أن خدم في الجيش، استطاع أن يلتحق بالجامعة، ويتخرج منها، ثم كرّس حياته للتدريس، وقد وُصف بالأستاذ المحبوب بين طلبته، محققا نجاحا كبيرا في تدريس اللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية، أمّا الأدب فلم يجد وقتا لممارسته إلاّ حين تقاعد من التدريس، لهذا تأخر كثيرا حتى يحقق ما كان يحلم به من تقدير مادي ومعنوي لشخصه.

أصدر ماكورت أربعة كتب تدور كلها حول سيرته الشخصية، وقد تُرجم للغات كثيرة وقُرِئ في سبعة وعشرين بلدا ولكنّه للأسف لم يترجم إلى اللغة العربية بعد.

رماد أنجيلا بيوغرافيا رائعة لا تخلو من الطرافة والمواقف المضحكة، كما لا تخلو من الدروس المهمة فيما يتعلّق بأضرار الإدمان، والتّعصّب الطائفي، والتطرّف الديني، أمّا أهم ما نستخلصه منها فهو أن أوروبا إلى تاريخ قريب جدا كانت جحيما قبل أن يتخلّص أبناؤها من أمراضهم الاجتماعية والسياسية ويحولوها إلى جنّة.