مشهد الحشد الكبير في باحة الصرح البطريركي السبت الفائت والخطاب الذي ألقاه البطريرك الماروني بشارة الراعي كانا إعلاناً واضحاً لانتهاء الكيان اللبناني، بل ربما إعلاناً صريحاً لاحتلال ما تبقى من الدولة اللبنانية من قبل طغمة سياسية فاسدة متحالفة مع السلاح الإيراني في لبنان.

بطبيعة الحال كلام الراعي لم يرِق لمنتقديه لا سيما "حزب الله" بجهاده الزراعي وخططه الاقتصادية الخنفشارية، وميشال عون بـ"عهده القوي" الذي يدّعي احتكار التمثيل المسيحي وينتحر في محور الممانعة وتحالف الأقليات، إضافة إلى حفنة من أمراء الحرب والإقطاعيين السياسيين الذين باعوا البلد ودستوره مقابل ثلاثين عملة من الفضة.

دعوة الراعي للمواجهة لم تلقَ استحسان القسم الأكبر من اليسار اللبناني بشقيه المساند لـ"حزب الله" والمعادي له... فالأول قام بمهاجمة البطريرك بزعم أنه ينتمي الى الإكليروس ولا يجوز له كرجل دين التدخل بالسياسة إلا إذا كان معمماً ويدعى السيد حسن نصر الله. أما الشق الثاني، فينظر إلى سيد بكركي بعين من الشك ويعايره بغياب البلورة السياسية لطرحه، بل ويخجل من مساندته كون علمانيته وتحجره وكبريائه تمنعه من الوقوف إلى جانب خطاب صادر عن رجل دين.

وهناك أيضاً فئة ثالثة من المشككين هم جيل الألفية أو ما يُطلق عليه اسم Millennials، وهؤلاء يرون في البطريرك الراعي ومختلف القيادات الدينية اللبنانية وتلك المتعاونة مع الخارج جزءاً من المشكلة وليس الحل. فجيل الألفية وهو العمود الفقري لثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) لا يقارب السياسة في شكلها التقليدي ولا يعترف بقواعد اللعبة التقليدية التي أودت بلبنان إلى القعر. وإلى هذه الفئة الثائرة كان على الراعي أن يتوجه ربما بمصطلحات أكثر شبابية، من دون أن يطلب الإنصات له، بل أن يُنصت لهم ولخيارهم المنشود في نموذج العيش، إن كان تحت سلطة الميليشيات وتكنولوجيا القتل والفساد أو في أحضان تكنولوجيا المعرفة و"أنغامي" Anghami.

السيد حسن، مسيِّر "حزب الله" الممول بالكامل من إيران و"حرسه الثوري" ومن موارد الدولة اللبنانية وأموال دافعي الضرائب، مهووس بتطوير الصواريخ والمسيّرات - ليس لسبر كوكب المريخ - بل لتدمير الكيان الصهيوني "الغاصب"، وهو في الوقت عينه مستشرق يؤلف خططاً اقتصادية مرة تمتد شرقاً نحو الصين ومرة أخرى تنحصر بزرع البطاطا والخضروات في حديقة المنزل وعلى الشرفات.

جيل الألفية غير معني بالصواريخ والبطاطا بمفهومه الإيراني، بل إن اهتماماته تتجه نحو الإبداع والريادة كما هو حال مطوري تطبيق Anghami الذي يُطرِب مستخدميه حول العالم بالموسيقى العربية... هذا التطبيق كان طوّره عام 2012 شبان لبنانيون آمنوا ببلدهم وقدرتهم على تحدي الصعاب، لكنهم خسروا الجولة الأخيرة من معركةٍ دامت سنوات مع النظام اللبناني المريض، والذي دفع بهم إلى نقل نشاطهم الى الإمارات العربية المتحدة بعدما أصبحت بيروت مقبرة الطموحات. فحال تلك المنصة التي تبلغ قيمتها 220 مليون دولار هو حال المئات من المبدعين، أصحاب المشاريع المبتكرة والوجه المشرق للبنان، وخسارتُهم فادحة وإن التجأوا إلى البلدان العربية الشقيقة.

لو ذهب أصحاب تلك المنصات والإبداعات إلى "سيد المقاومة" أو إلى أمراء الطوائف الأخرى للاعتراض على وضع لبنان المزري لكانوا تلقوا التوبيخ وربما الدعوة إلى التضحية في سبيل مشروع "الحرس الثوري" الإيراني في المنطقة مع الاستعاضة عن مشاريعهم الموسيقية ببيع الأقراص المدمجة المقرصنة على تقاطع مار مخايل أو على أوتوستراد الدورة.

المعضلة الحقيقية لا تكمن في كلام البطريرك نفسه أو حتى في تراجعه عنه، بل في تكبّر منتقديه على الحق وفلسفتهم لكل شيء فقط في سبيل الهروب من المحتوم ... وخشبة الخلاص لن تكون بتبني كلام البطريرك السيادي فحسب، بل بتحويله إلى أمر واقع عبر رفض الإرهاب الفكري لمنظمة الفساد والقتل والعمل على إعادة تطبيقات كـ"أنغامي" إلى ربوع الوطن لتحل الموسيقى والإبداع محلّ قلوبهم السوداء الميتة أصلاً والمتعطشة للقتل والفساد.

لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العودة إلى الحياة ودخول عالم الشهرة من باب مشاريع إبداعية كتطبيق "أنغامي" الذي دخل التاريخ كأول شركة تكنولوجيا عربية تدرج للاكتتاب في "ناسداك نيويورك" أو السقوط في مزبلة التاريخ عبر مشاريع صواريخ القتل والبطاطا المتعفنة.