لا يلزم أي منا أن يكون مصرياً كي يحب مصر، وأن «تكون في خاطره». في روح كل منا شيء من مصر، ونفرح لكل فرح فيها كما يفرح أهلها، ونحزن إذا ما أصابها سوء كما يحزنون. ومصر التي أخذت من الثقافة العربية، فإنها أعطتها الكثير جداً من حضارتها وتراثها السابقين لدخول الإسلام إليها، وفي العصر الحديث فإن مصر كانت مصهر التنوير والحداثة العربيين، وما زالت ثقافتها تختزن في ثناياها مقومات نهضة تنويرية عربية جديدة، بوجه التطرف والتعصب والجهل.
وكنا، عبر الشاشات، شهوداً على الحدث الثقافي المهيب، حين انطلق موكب المومياوات الملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط جنوبي العاصمة؛ حيث استقرت المومياوات الملكية في مثواها الأخيرة، وهو حدث ينتصر للحضارة الإنسانية عامة، التي كانت مصر مهداً مهماً لها، ما زال يستأثر باهتمام العالم في مشارقه ومغاربه، وسيظل.
على سبيل المثال نذكّر بكتاب الفرنسي روبيير سوليه، «مصر.. ولع فرنسي»، ملاحظاً أن «الهوس بمصر» ليس فرنسياً فحسب؛ بل هو ظاهرة عالمية عُرفت في مراحل مختلفة، فروما القديمة لم تكتف بنزع مسلات من وادي النيل وأعادت نصبها على أراضيها؛ بل قامت بتبني معتقدات وصروح مصرية. وشيء مشابه يفعله الغربيون اليوم، فما من عاصمة غربية مهمة لا وجود لآثار مصرية فيها، كأن مصر الحاضرة في التاريخ، تلح على العالم في الحاضر أيضاً من خلال حضارة لا يزيدها الزمن إلا دهشة وفضولاً.
حسب وزير السياحة والآثار المصري، فإن الملك سقنن رع، من الأسرة الملكية السابعة عشرة (القرن السادس قبل الميلاد)، هو الذي قاد موكب الملوك في رحلتهم الأخيرة إلى متحف الحضارة بطريقة بها إجلال، وفي مؤخرة الموكب الملك رمسيس التاسع من الأسرة العشرين (القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، كما ضم الملك رمسيس الثاني والملكة حتشبسوت، بعد أن قضوا 140 عاماً في المتحف المصري بالتحرير، وسار الموكب من خلال عربات مزينة برسومات ونقوش فرعونية، تحمل كل عربة اسم الملك الموجود بداخلها.
عند وصول الموكب الملكي إلى «متحف الحضارة»، أطلقت المدفعية طلقات التحية لهم، تماماً كما تطلق للأحياء، فالعربات المزينة لم تنقل آثاراً أو تماثيل، إنما «جثث أموات»، بتعبير أكاديمية مصرية شابة متخصصة في الآثار في حديث لها لشبكة «بي. بي. سي»، فالراقدون في العربات صناع مجدٍ لا يزال العالم، على تقدمه، حائراً في أمره، حين استطاع الفراعنة، قبل الآف السنين، الحفاظ على جثث ملوكهم.