يقول غازي القصيبي، رحمه الله، وهو يودع رمضان في نهاية شعبان: «لم يكن رمضان في القديم يأتي وفي صحبته مسلسلات لها أول وليس لها آخر، وليس في واحد منها شيء عن تزكية النفس أو تنقية الروح. لم يكن مسابقة في الفتوى بين المفتين، ولا في الجمال بين المذيعات، ولا في الذكاء بين المحللين السياسيين. لم يكن مدرسة للعادات السيئة يتعلم فيها الصغار الطعام المتصل، والعبث المتصل، والسهر المتصل». (صحيفة الوطن السعودية 27 أغسطس/آب 2008).
أبدى غازي القصيبي، رحمه الله، حسرة وهو يودع رمضان في نهاية شعبان، والمعتاد أن يعبر الناس في خمسه الأواخر عن أحزانهم على فراق الشهر المبارك؛ شهر النفحات الإيمانية والأجواء الروحانية والبركات الربانية.
للأدباء في بث شجونهم الإيمانية مسار مختلف وذائقة مختلفة عن الأسلوب المعتاد للعلماء والوعاظ، وفي كلٍ خير، فالمسارات تكاملية وليست تضادية، ما دامت غايتها واحدة، وهي تعظيم الشعائر وتقديسها، ونقد تنافس الناس في ارتكاب الأخطاء في الأوقات الصحيحة... الفرق أن الأديب يصل بأسلوبه وإبداعه إلى ما لا يصل إليه الواعظ، فلهذا جمهوره، ولذاك عشاقه.
وقد نال عدد من الفضائيات العربية النصيب الأكبر من نقد القصيبي... يتساءل بحسرة ودهشة: «أي (تقوى) يمكن أن يحس بها شخص يلهث متلمظاً من حسناء في مسلسل إلى حسناء في مسلسل؟»، و«أي روحانية يمكن أن يحس بها الصائم في شهر يجسد المادية الطاغية؛ بدءاً بالإعلانات وانتهاءً بجوائز المسابقات؟»، وهذا بالتحديد ما جعل الناس ومن شرائح مختلفة وتوجهات فكرية متنوعة في طول عالمنا العربي تضج بضيقها وتبرمها من تجاوز الخطوط الحمر، ولو كان غازي بيننا هذه الأيام لكان لحرارة نقده كلام آخر. هذه الإساءات الإعلامية بحق الشهر الكريم حملت، على سبيل المثال، المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المصري على فتح تحقيق فوري مع المسؤولين عن إنتاج أحد المسلسلات الخادشة للشهر الكريم ولقيم الناس ومُثُلِهم، وقد طال التحقيق مسؤولي القنوات التي تقوم بعرضه، بعد أن تلقى شكاوى عديدة تماثل شكوى القصيبي، رحمه الله، ولو اختلف الزمان والمكان.
لقد أثنى القصيبي، رحمه الله، على الجيل الرمضاني القديم؛ جيل ما قبل الفضائيات و«السوشيال ميديا»: «كان الطلاب يذهبون إلى مدارسهم كالمعتاد. وكان الموظفون يمارسون عملهم كالمعتاد، أما في رمضان الجديد، فقد أصبحت دراسة الأطفال عقوبة جسدية ومعنوية قاسية لا مبرر لها، أما دوام الموظفين فقد تحول إلى (وصلة) نوم وخمول استجماماً من سهر الليلة السابقة واستعداداً لـ(ملاحم) الليلة القادمة». كلام القصيبي صحيح، ولكن الصحيح أيضاً، حتى لا نسرف في نقد الجيل الجديد وتبكيته وتقريعه، أن الجيل الجديد؛ ورغم مغريات وملهيات رمضان وأفلامه ومسلسلاته وفوازيره وإعلامه الجديد، أشد علاقة بالمساجد، فهو في رمضان أكثر إقبالاً على الفروض والتراويح والصدقات والصلة والعلاقة بالقرآن الكريم والشوق للحرمين الشريفين والتردد عليهما، من الجيل القديم.
ونطمع الآن في طلائع جيل جديد يجمع أجمل ما في الجيل القديم وأحسن ما في الجيل الجديد، وعندها نحول عبارة القصيبي، رحمه الله، من «وداعاً رمضان» إلى «أهلاً رمضان» الخالي من كل ما يخدش قدسيته وكرمه وبركاته وإنتاجيته.
التعليقات