بات من نافل القول ان لبنان بلد ديموقراطي، بل ان الحكم يشدد على اعتماد معايير لا تحدِّد معالمَها ومقاصدَها.
البحث عن حكومة مفيدة معقّد لان الحكم يعتبر ان ما يقترحه الرئيس سعد الحريري يخالف الميثاقية…وتفسير الميثاقية يرتكز على تخصيص رئيس الجمهورية باختيار ستة وزراء، اضافة الى الوزير الارمني…أين هو هذا الافتراض الذي يتجاوز اتفاق الطائف – اي الدستور الجديد…والميثاقية تسعى الى تعويض رئيس الجمهورية عن خسارة التقرير في شؤون كثيرة نُقلت صلاحياتها الى مجلس الوزراء مجتمعًا.

إن تجاوز هذا الانتقال بالصلاحيات يكون بالسيطرة على مجلس الوزراء واعتماد الميثاقية التي لم يعرّفنا أحد الى خصائصها، حتى مفلسف الدستور الرئاسي الوزير السابق سليم جريصاتي لم يكلف نفسه عناء شرح الميثاقية.
لبنان منذ اخضاعه للتحكم السوري لم يحفظ من اصول الديموقراطية اي شرط، فنوابنا كانوا يقفون بالصف امام منزل رستم غزالة، هذا المتحكم بالشأن اللبناني، كي يحصلوا على إذن بإنجاز مشروع مفيد او تعيين موظفين في مراكز حساسة. ورستم غزالة كان يبتز اصحاب “بنك المدينة” بالتهديد ويسحب الاموال ببطاقة مصرفية بلغت حصيلتها 45 مليون دولار، وهو بعد بذخه على بناء قصر في قريته في سوريا والتصرف بعنجهية، قُتل دعسًا بأقدام اهل قريته وتُركت جثته قبالة المستشفى العسكري في دمشق.

والمتحكم بشؤون لبنان قبل رستم غزالة كان غازي كنعان الذي يمكن القول انه كان يتمتع بخصائص منها التهذيب في تعامله مع الناس، علمًا انه كان لا يهتم بإبقاء نائب لبناني ينتظره ساعات في مكتبه في البقاع لاجتماع قد يدوم 15 دقيقة. وعلى رغم ان غازي كنعان انتحر، كما يقال، في اليوم الذي اجرى فيه مقابلة مع الاذاعية المعروفة وردة، هنالك تساؤلات عن اسباب انتحاره، وذلك بعد انتحار أخيه برمي نفسه امام أحد القطارات في سوريا.

العبء السوري على الاقتصاد اللبناني استمر بعد الانسحاب من لبنان في 26 نيسان عام 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكنت واحدًا مع اربعة وزراء في عشاء عند السفير الاميركي مساء 28 شباط من العام نفسه، والذي ابلغنا ان القوات السورية ورجال مخابراتها سينسحبون من لبنان قبل نهاية نيسان، وان الانتخابات النيابية ستُجرى في موعدها في حزيران، وهكذا كان. لكن التأثير السوري على الحياة السياسية استمر، ولا يزال، عبر حلفائه في لبنان، وعلينا ان ندرك الثمن الذي دفعه لبنان لاتقاء التأثيرات السلبية لحلفاء سوريا فيه.

منذ عام 2010 وكاتب هذا المقال يحاول ان ينبّه الى تأثيرات سياسة الطاقة على الاقتصاد اللبناني، فالعجز السنوي تنامى والبرامج الافتراضية لم تتحقق، والاعتذارات المتوالية كانت تنصبّ على “التعرقل”… اي ان مَن هم مِن غير “التيار الوطني الحر” كانوا يعرقلون مساعي الوزراء الطيبين من جبران باسيل، الى القيصر سيزار ابي خليل، الى السيدة ندى بستاني والوزير الحالي ريمون غجر.

التحكم بتأخير مساعي انشاء معامل جديدة للكهرباء وتأخير تنفيذ اتفاق انشاء معمل منذ عام 2013 قرب موقع حفظ المشتقات النفطية في جوار طرابلس مهَّدا لاستقدام البواخر التركية بتكاليفها المرتفعة، وتناسى القيّمون على وزارة الطاقة ضرورة صيانة المعامل القائمة في مجرى نهر الليطاني، والمعامل الثلاثة بطاقة 190 ميغاواط.

عجز الكهرباء والخوف من العتمة المقبلة من دون شك والتحقيق في تسلّم شحنة من المشتقات نسبة 30% منها غير صالحة، على رغم تسديد ثمنها من احتياطات مصرف لبنان، أمور ساهمت في استهلاك الاحتياط الذي كان لدى المصرف المركزي منذ عام 2009، وتسبّب الازمة المالية العالمية بتحويل 24 مليار دولار من ثروات لبنانيين متحققة في معظمها من نشاطاتهم عالميًا واقليميًا.

شهد لبنان هذا الفائض حينما كانت المصارف اللبنانية تتمتع بسمعة جيدة، وكانت نسبة الودائع والارباح من فروع المصارف اللبنانية في الخارج تمثل 40-45% من الودائع والارباح الإجمالية، واليوم تسارع المصارف اللبنانية الى تسويق فروعها في الخارج لتأمين سيولة تسمح لها باستمرار العمل، مع تقييد اصحاب الودائع على السحوبات، وعما قريب لن يستطيع لبنان تأمين مستوردات المشتقات النفطية، والمنتجات الطبية، والقمح لان القدرة على دعم هذه المستوردات الضرورية باتت معدومة اذا كان لمصرف لبنان ان يحفظ الحد الادنى لحسابات المصارف لديه، وهو يتمثل بنسبة 18% من حجم الودائع.

وتجدر الاشارة الى ان حجم الودائع انخفض منذ نهاية 2019 – سنة الانتفاضة – حتى تاريخه من 142 مليار دولار – 80% منها بالعملات الاجنبية و20% بالعملة اللبنانية – الى 102 ملياري دولار، اي نحو 40 مليارًا خلال سنة ونصف سنة.

استمرار الاوضاع المتردية على ما هي سيساهم في ارتفاع حدة الازمة في سوريا لان التهريب المنظم لمشتقات النفط اليها والذي اشرنا اليه منذ عام 2014 في جلسة دراسات مشتركة مع البنك الدولي، شكّل متنفسًا لأوضاعها المهترئة. وبالفعل اصبحنا نحن في لبنان نتيجة استمرار اعمال التهريب، وتحمّل الخزينة اعباء كفاية المهجرين السوريين على مستوى تأمين المياه والكهرباء وخدمات التعليم، نخسر، استناداً الى حسابات البنك الدولي، نسبة 3% من الدخل القومي. ومعلوم ان دخلنا القومي تناقص الى حد بعيد، نتيجة انحسار التحويلات الى لبنان، والاسراف في استهلاك الاحتياط، وتعثّر اعمال المصارف، بحيث بتنا مع مشاريع البطاقات التموينية واستجداء الاعتمادات النفطية لحاجات الاستهلاك، في وضع مشابه لوضع الاقتصاد السوري، فلا عجب إذاً ان يسعى اللبنانيون الى #الهجرة. فلبنان اصبح، على رغم ارادة اهله، من الدول الممانعة. كل ذلك يحصل وايران تقترب من معاودة علاقاتها بالعالم.