فقط عبر تفاهمات المصالح، يمكن ليبيا أن تحلم بخلاصها من القوات الأجنبية ومن المرتزقة ومن الانقسامات الداخلية التي تُساهم كلها في تآكل نسيج المجتمع وتمزّق البلاد. وهذا لن يكون سهلاً ما دامت القوى الخارجية تتعارك على الأرض الليبية، وما دام الليبيون يتجنبون الوقوف أمام المرآة ومحاسبة النفس ويقلعون عن رياضة اللوم والتذمّر من الآخرين.

توقيت هذا الكلام ليس بهدف الإمطار على الموكب الاحتفائي بالاتفاق على حكومة وطنية انتقالية وعلى خريطة طريق الى الانتخابات والتعافي لليبيا. القصد هو التنبّه الى الفرص والمطبّات، الدولية والإقليمية والوطنية منها، لأن ليبيا ما زالت عالقة بين موازين الجشع ومشاريع الطمع القبليّة منها والجغرافية - السياسية على السواء.

السفير الليبي لدى الأمم المتحدة طاهر السني قال إن خروج المرتزقة الأجانب من ليبيا "أمر حتمي، لكن من الضروري نزع سلاحهم بآلية تتفق عليها اللجنة العسكرية المشتركة". هذا كلام معقّد ومركّب وشبه مستحيل. ثم قوله إن "خروج المرتزقة بأسلحتهم سيعيد تدوير الصراع في ليبيا وزعزعة أمن الجوار والمنطقة كما يحدث الآن" كلام جميل لو كان في وسع ليبيا حقاً حماية الجوار والمنطقة من زعزعة أمنهما.

فالتواضع في تحديد الأهداف بموجب القدرات ضروري أكثر من التطلّع الى مهمة تعجيزية، قد تُكبّل القدرة على تحقيق هدف خروج أو إخراج المرتزقة والميليشيات والمجموعة المسلحة السورية أو التشادية أو السودانية أو غيرها.

ثم إن "مجموعة فاغنر" من القوات شبه العسكرية التابعة لروسيا، مثلاً، إذا كان لها أن تنسحب من ليبيا، فهل ستوافق موسكو على تجريدها من السلاح قبل مغادرتها؟ وماذا عن الميليشيات شبه العسكرية التي تواكب الوجود العسكري التركي "شبه الشرعي" - هل سترضخ أنقرة لفكرة تجريدها من السلاح؟

لا. ليست هناك "آليّة" لنزع سلاح المرتزقة أو الميليشيات في ليبيا قبل خروجها. وهذه الآلية تولد ميتة أساساً إذا كانت خاضعة لاتّفاق "اللجنة العسكرية المشتركة". الأفضل للحكومة وكل الأطراف الليبية أن تقتنع بمجرد الاتفاق - البعيد المنال حالياً - على مغادرة القوات الأجنبية ومغادرة المرتزقة، لا سيّما أن تعريف من هو هناك "شرعياً" ومَن "يحقّ" له بكون في ليبيا هو بحد ذاته موضع خلاف.

هناك وجود وحشد عسكري تركي في قاعدتين غرب ليبيا تقول أنقرة إنه أتى بدعوة من الحكومة السابقة، وبالتالي إنه "شرعي"، وقد تكون هناك قواعد أخرى غير علنية. لموسكو وجود عسكري مباشر وغير مباشر في قاعدتين غير رسميّتين، كما يتردد، الى جانب مجموعة فاغنر. الخلاف والتنافس بين موسكو وأنقرة في سوريا انتقل الى الساحة الليبية بهدف تلقين الدرس للآخر كما بهدف التموضع استراتيجياً واقتصادياً وعقائدياً، كما في حال تركيا صاحبة مشروع "الإخوان المسلمين" لنشرهم في مواقع السلطة في الدول العربية. الولايات المتحدة تنظر الى ليبيا من عدسة منع روسيا من التمدّد في شمال أفريفيا، وبالتالي تركّز على إخراج مرتزقة فاغنر. أوروبا منقسمة لكن فرنسا واضحة في معارضتها الوجود التركي في ليبيا لأسباب ثنائية.

روسيا لن تنسحب من ليبيا سوى إذا حصلت على "ضمانات"، بحسب قول مصدر روسي، تتكفّل باستمرار الوجود الروسي النفطي وغير النفطي وتتيقّن من "الاستقرار". ما نقله هذا المصدر هو أن هناك توقّعاً باندلاع النزاع الليبي - الليبي مجدّداً في غضون شهر أو شهرين. قال المصدر إن قراءة موسكو هي أن تركيا لن تغادر ليبيا تحت أي ظرف كان، وبالتالي روسيا باقية ما لم تسحب تركيا قوّاتها. برّر المسؤول الروسي السابق موقف الكرملين، غامزاً بقوله إن "مجموعة فاغنر هي مجموعة حماية وليست مجموعة عدائية" في ليبيا. فالكل يعرف أن الحديث عن الوجود الأجنبي هو حديث مصالح بامتياز.

أثناء الجلسة الافتراضية الـ33 لقمة بيروت أنستيتيوت في أبو ظبي تحدثت إيرينا زفياجيلسكايا، مديرة مركز دراسات الشرق الأوسط في معهد بريماكوف الوطني للبحوث، وأستاذة معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية، عن موقع ليبيا في الأولويات الروسية. قالت: "ليبيا ليست أولوية لروسيا. أوافق على أنها دولة مهمة، إذ لدى روسيا نوع من المصالح الجيوسياسية المرتبطة بالوضع في ليبيا، ولروسيا أيضاً مصالح اقتصادية، لسوء الحظ لا يمكن تحقيقها بشكل صحيح بسبب عدم الاستقرار، لأنها تنطوي على مخاطرة كبيرة". وتابعت: "لكن لا تزال هناك شركات روسية تريد بطريقة ما إحياء علاقاتها مع ليبيا، من بينها Tatneft، على سبيل المثال، شركة النفط في تتارستان، ومن بينها شركة السكك الحديدية". أقرّت بأن العلاقات الروسية - التركية معقدة، لكنها، حسب قولها، أكثر أهمية لموسكو بأبعادها في منطقة القوقاز، مما هي في ليبيا.

لفتت زفياجيلسكايا، بصراحة، الى العنصر الداخلي في ليبيا، كما في سوريا، وقالت إن "المشكلة الرئيسية هناك، من وجهة نظري، ليست فقط أنشطة القوى الخارجية والتي، بالطبع، لها تأثير في الوضع. لكن يبدو لي أن ما لدينا في ليبيا، وما لدينا في سوريا هو النقص في مسؤولية القوى المحلية" والنقص في المؤسسات، "فإذا لم تكن هناك مؤسسات، لا يمكننا فعل أي شيء، لا روسيا، ولا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي".

رأي إلهام سعودي، المديرة العامة لمنظمة "محامون من أجل العدالة في ليبيا" والمتخصصة في حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدول،ي هو أنه "لا مساءلة للجهات الفاعلة الدولية". قالت: "في ليبيا، لدينا نظام عدالة فاشل بسبب الصراع والعديد من القضايا المؤسسية الأخرى. وبالتالي نحن بحاجة الى الاعتماد على المجتمع الدولي حتى في الأمور البسيطة مثل محاسبة الناس". تابعت: "هناك عائق حقيقي أمام قدرتنا على القيام بعملنا كليبيين عندما تنخرط الجهات الدولية الفاعلة في ليبيا"، مشيرة الى أن روسيا عضو في مجلس الأمن وتجلس في لجنة العقوبات.

ستيفاني وليامز، القائمة بأعمال الممثل الخاص السابق للأمم المتحدة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، مصرّة على ضرورة البناء على ما أُحرز "فهذا جهد مستمر يجب الحفاظ على زخمه" بعد عشر سنوات من "الفوضى والتصدّع والصراع" وبرغم "الوضع الهش". رأيها "أن الولايات المتحدة يمكنها استخدام صوتها بكفاءة وفعالية أكبر، واستخدام سلطتها في عقد الاجتماعات" لتساعد الأمم المتحدة "حقّاً في ما ستكون أياماً صعبة للغاية في المستقبل. وأيضاً، وبصراحة، لإعطاء صوت للّيبيين" ولمحاربة تلك الفكرة الزائفة بأن في الشرق الأوسط رؤيتين فقط، هما، إما "ثيوقراطية الإسلام السياسي أو الاستبداد العلماني".

"هناك الكثير من المخاوف في ليبيا من أن الانتخابات الرئاسية ستؤدي الى مزيد من المنافسة والمزيد من القتال" تقول كلوديا جازيني، المحلّلة في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات في ليبيا، والمستشارة السياسية السابقة لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. تقول: "أولاً، وقبل شيء، دعونا نحاول الحصول على اتفاق بتوافق الآراء... والتخفيف من مخاطر العنف الانتخابي". تضيف أنه "في هذه المرحلة الانتقالية، يجب أن يكون هناك اتفاق على إدارة عائدات النفط الليبي، واتفاقية بشأن الميزانية... وحول كيفية إنفاق أموال ليبيا التي تعتمد كليّاً على إنتاج النفط. فهذه دولة ريعيّة بامتياز".

توافق الآراء لن يكون سهلاً، لا بين الأطراف الليبية ولا بين الأطراف الإقليمية والدولية. لعل بوادر التفاهم وبدء التواصل بين مصر وتركيا تنعكس إيجاباً في ليبيا، نظراً الى أهمية مصر في جيرة شمال أفريقيا والى الدور المثير للجدل الذي يقوم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان داخل ليبيا، وفي رعايته مشروع الإخوان المسلمين في مصر وليبيا على السواء.

أردوغان قد لا يستمر بالتمتّع بطأطأة الرأس الأميركي مباركةً لوجود تركيا العسكري القوي، وذلك منعاً وصدّاً للوجود الروسي العسكري في ليبيا ولامتداد النفوذ الروسي في شمال أفريقيا. مواقف الرئيس الأميركي جو بايدن من الإبادة الأرمنية، والمطالبة باعتراف تركيا بمسؤوليتها عنها سيكون لهما إفرازات وتداعيات سياسية ومعنوية ومادية.

فالاعتراف يعني الاضطرار الى دفع التعويضات كما حصل لضحايا النازية. وذكرى الإبادة الأرمنية هذا الأسبوع قد تسجّل بدايةً لتغييرٍ مهم في العلاقات الأميركية - التركية، الثنائية منها وتلك التي تدخل في فلك النشاطات التركية في ليبيا وسوريا.

ليبيا لن تتمكّن من بناء نفسها كدولة جديّة طالما لا مؤسسات فعليّة فيها ولا محاسبة لمن يساهم في تمزيقها من الداخل أو الخارج. لن تقع معجزة إنقاذ ليبيا ما لم يتحمّل الليبيون أنفسهم مسؤولية بناء الوطن والدولة ويتنازلوا من أجل توافق الآراء، وما لم تتفاهم الدول الفاعلة في ليبيا كتركيا وروسيا، والجيرة الليبية كمصر والجزائر وتونس، والدول الأوروبية قبالة ليبيا كما الولايات المتحدة. هكذا تقضي البراغماتية حتى وإن وقعت تفاهمات مصالح الآخرين داخل الأراضي الليبية.

التركيز على إخراج المرتزقة والميليشيات من ليبيا ضروري وأساسي، وقد لاقى دعماً عربياً وأوروبياً ودولياً عبر منظمات جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي. الآن أتى دور الحكومات لتثبت الجديّة. فمعظم القوات غير النظامية في ليبيا تأخذ تعليماتها من حكومات تديرها. وما دامت تصرّ أنقرة على أن قواعدها في ليبيا باقية مهما كان، ما دام الأمل بخروج كامل القوات الأجنبية يتقلّص.