نصحني الصديق الباحث محمد حسين الأعرجي (ت: 2010) بالاطلاع على مجلة «العرب»، لرزانتها البحثيَّة المُحكمة، مُنشئها العلامة حمد الجاسر(ت: 2000)، ومنها بدأت أتابع ذخيرة هذا المؤرخ، الذي شَمل ضمناً بوصف وزير الخارجيَّة اللبناني مؤخراً. إلا أنّ الجاسر، المولود بقرية البرود مِن نجد، شق طريقه مؤرخاً على هدى المؤرخين القدماء بأدوات العصر، فلم يتخرج في جامعة، ولم يدعِ شهادة عُليا، لكن بأعماله الغزيرة، في التَّاريخ والجغرافيا، وتحقيقاته في التَّاريخ والأدب، حصل على عضويّة المجامع العلمية، مجامع: القاهرة ودمشق وبغداد وعَمان والهند وغيرها.

لفت نظري أنَّ الجاسر كان سابقاً إلى قرظ موسوعة جواد علي (ت: 1987) «تاريخ العرب قبل الإسلام»(1951): «هذه باكورة من بواكير ثمار المجمع العلمي العراقي، وخير بواكير الثِّمار ما سد فاقةً، وجاد في إبان الحاجة إليه. ولقد كانت المكتبة العربية مفتقرة إلى كتاب شامل مفصل لتاريخ الأمة العربية، في الأحقاب التي تقدمت عهد الرسالة، يجلو غامض تاريخها السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، لأن مؤرخي هذه الأمة قد عنوا بتاريخها من ذلك العهد، وما حوله وما بعده، وتركوا الهوة السَّحيقة التي سبقته مجهولة المعالم، خافية الصَّوى، وعرة المسالك، إذا رام سالك التوغل في بيدائها وجدها كمفازة أبي الطَّيب»(مجلة الرِّسالة 3/9/1951 العدد: 948).

ربطته صداقة بالأكاديمي والمحقق علي جواد الطاهر(ت: 1996)، يوم كان الأخير يعمل في جامعة الملك سعود، وببقية الأساتذة اليساريين الذين عملوا هناك، بعد استغناء الحكومة العراقية عنهم، ولاحقتهم لأسباب سياسية. كان الجاسر أول مَن ألتفت إلى وهن «التوراة جاءت مِن قلب الجزيرة» لكمال صليبي(ت: 2011)، وحينها عُدَّ قنبلة الموسوم، لا يجرؤ أحد على نقضه، فتهمة العمالة جاهزة، وكيف إذا كان النَّاقض مِن عرب الجنوب (البدوي)! مازال البعض يغرف من صليبي، الجدير بالتقدير حقاً. نقض الجاسر بناء الكتاب على فكرة خاطئة: «وما كان التشابه في الأسماء الواردة في لغات مختلفة دليلاً لاستنتاج حقائق علميَّة»(مجلة العرب: 1/5/ 1986). أنَّها أسماء تتكرر ضمن التِّرحال والتِّجارة، لا تبنى عليها فكرة أنَّ التَّوراة مِن الجزيرة أو اليمن!

بعد بيان أعلميَّة هذا «البدوي»، حسب النَّظرة الاستعلائية، نأتي إلى السّرقة منه. كان مهتماً بمخطوط «التَّعليقات والنَّوادر» لأبي علي الهُجري، اقتناه من الهند ومصر، وكتب عنه بحوثاً(1953)، ثم ألف «أبو علي الهجري وأبحاثه في تحديد المواضيع»، وبعد صدور الكتاب بعث علي جواد الطاهر(1981) إليه بنسخة مِن كتاب «التَّعليقات والنَّوادر» للدكتور الفلاني، وكأن الطَّاهر شعر بالإغارة على صاحبه.

مُنح الدُّكتور محقق «التعليقات والنَّوادر»، الشَّهادة مِن الدكاترة: رمضان عبد التَّواب، وبدوي طبانة، ومصطفى الشَّكعة، بتحقيق مسروق مِن كتاب الجاسر. كان زاره ببيروت واستعار منه المخطوط، فأهدى له كتابه المطبوع، وإذا به يكتشف سرقة جهده، كتب خمس حلقات «الدَّكاترة والعبث بالتُّراث»، مؤكداً لمَن منحوا السَّارق شهادة بمادة مسروقة: «هذا العمل الذي أوله سطو على جهد غيره، وآخره عَبث وإفساد، وتحريف وتشويه لنصوص كتابٍ جدير بالصِّيانة»(مجلة العرب، 1/9/1981).

أقول: ربَّما لم يهتم الدّكتور السَّارق بفضح سرقته مِن الجاسر «البدوي»، ولنفس السّبب لم يؤخذ برده على صليبي، كيف لبدوي مِن عمق نجد يرد على أهل «المدنيَّة»! يا عرب الشَّمال تواضعوا، فما أنتم الأعلون!