عملاً بمقاييس سادت قواميس العرب، ومصطلحاتهم السياسية، منذ ما بعد حرب 1967 فصاعداً، يجب التسليم باختلاف حقيقي قائم في شأن تعريف مدلول كلمة الحروف الثلاثة «نصر»، بمعنى أين ومتى يكون استخدامها جرى في موضع صحيح غير قابل لأي جدل؟ في المقابل، ثمة خلاف أوجع رؤوس المختصمين العرب حوله أيضاً بشأن الاعتراف بأن ما حصل في حرب ما كان «هزيمة»، بكل ما تعني الكلمة ذات الأحرف الخمسة، ومِن ثمّ فإن أي التفاف حول الإقرار بحقيقة ما وقع، هو تحريف يرقى إلى مستوى التزوير، أو أنه وفق أخف الأحكام هروب فاضح من مواجهة حقائق ما جرى على أرض الواقع. في محاولة تقف على سور الخلاف بين كلا الفريقين، اخترع أنصار التوفيق الصعب، أو المستحيل، أحياناً، كلمة أخف وقعاً هي «نكسة»، وهذا اجتهاد فصيح، يستحق أصحابه، أو مَنْ نحت تلك الكلمة تحديداً، أكثر من مجرد التهنئة، كأن يُبوأ أعلى مراكز البحث عن اصطلاح يُشتق دائماً بغرض توصيف أي حدث بما يتناسب مع أهداف أبطاله، كما في حالة انتزاع حكم، مثلاً، وهو ما حصل فعلاً، عندما جرى إطلاق وصف «حركة تصحيح» على أكثر من انقلاب عسكري مُسلّح، انقلب ضباطه على انقلابيين سبقوهم ضمن لعبة انقلابات دول المشرق العربي.
ما وقع من زعيق متبادل بين فريق أصر على أن التوصل إلى قرار وقف إطلاق النار، بعد مسلسل غارات إسرائيل غير المسبوقة في نوعيتها التدميرية لبنية قطاع غزة التحتية والعمرانية، طوال أحد عشر يوماً، خلال أواخر رمضان الماضي، هو «نصر»، وبين فريق دعا إلى ما سماه «التواضع» -وهذا اجتهاد فصيح أيضاً- في تقييم حصاد ما جرى، ذلك الصياح المتبادل ليس الأول من نوعه، حصل غير زعيق مشابه، مرات عدة، من تخاصم اللبنانيين حول ادعاء تحقيق «نصر إلهي»، بعدما لحق اللبنانيين ما لحقهم من خسائر في الأرواح، ودمار في العمران، خلال حرب صيف عام 2006، حتى اجتراء بعضهم على الزعم بأن عراق صدام حسين هو «المنتصر» في «أم المعارك» عام 1991 لمجرد أن الرئيس نفسه صمد في خندق الحكم.
حسناً، أيكون بقاء أي رئيس عربي في الحكم هو «مربط الفرس» في تعريف «النصر» ورفض الاعتراف بحصول «هزيمة» تصعق آثارها على الأرض كل ذي بصر وسوف يستحيل إخفاء تبعاتها على مدى أجيال؟ للأسف، يبدو الحال هكذا في أعراف ومفاهيم تيارات عدة في أوساط النُّخَب العربية، من المحيط إلى الخليج، لأن ما نشأ مِن مناهج التفكير قام، في الأصل، على أساس أن التبرير ممكن دائماً، وأن التغيير يجب أن ينتظر، بصرف النظر عن خطر النتائج.
إذاً، هل جائز القول إن الأمر ينطبق تماماً على وقائع أحداث مصر قبل أربع وخمسين سنة من هذا اليوم؟ وفق تقديري؛ ليس بالضبط. بكل تأكيد، ثمة أكثر من سبب يعزز الاعتقاد بصواب قرار الرئيس جمال عبد الناصر التنحي عن الحكم. هناك أيضاً دلائل تؤكد أن هبّة الجماهير في مصر -كنتُ واحداً منهم- وخارجها، رفضاً للقرار كانت عفوية، وجداً صادقة، حتى لو أن أجهزة في النظام استغلتها لاحقاً وجيّشت عناصرها كي تنحشر وسط الناس لأهداف تخصها. يخبرني طبيب مصري متقاعد كان يقيم في لندن آنذاك أن إحدى الصحف -هو يظن أنها «التايمز»، لكنه غير متأكد- صدرت بعنوان رئيسي يقول التالي: «زعيم منتصر وشعب مهزوم».
A VICTORIOUS LEADER AND A DEFEATED NATION
نعم العرب كلهم، هُزموا يوم خامس يونيو (حزيران) 1967 والأيام الستة التي تلت، ونعم المصريون ضمنهم، وبلا جدال كان رئيسهم أول من أقرّ بالفجيعة حتى لو حاول سَوْق أكثر من مبرر. لكن عبد الناصر لم يكن صدام حسين، أو غيره من زعماء النظم الثورية في العالم العربي. كان زعيماً تجاوز بتأثيره حدود بلده، والجوار الإقليمي، إلى آفاق الحدث العالمي الأوسع، فشكَّل الحالة الرمز، التي حين تمسكت بها جماهير مهزومة فعلاً، فإنها كانت تبحث في بقائه قائداً لها عن انتصارها الضائع نتيجة ألاعيب مراكز القوى وصراعاتها داخل نظام ناصر ذاته. نعم، ذلك زمان ولّى، لكن صدى ما خلّف وراءه لم يزل يُحدث فعله العميق في كل ما يجري بعالم عربي ممزق الأوصال، ومَن يدري؛ أيكون الآتي أفظع؟