انفجار الصراع السياسي في لبنان أقفل كل احتمالات الحل، ووضع البلد أمام الفوضى، إذ إن فرص الإنقاذ تتضاءل، ولم يعد الوقت متاحاً لإجراء عمليات جراحية في بنية النظام، فيما الأولوية باتت لتشكيل حكومة تستطيع وقف الانهيار، لكنها تعطلت على أبواب قصر بعبدا بعد رفضها من رئاسة الجمهورية، وهو أمر اعتبره رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري متعمداً وأن شروط ميشال عون تستهدفه علماً أن رئيس الجمهورية اتهم بري بالانحياز الى الرئيس المكلف سعد الحريري.

الأزمة في لبنان بلغت ذروتها بفعل الصراع الذي جعل معالم الدولة غائبة، على ما نشهده من فوضى تطاول حياة الناس، فيما قوى السلطة الحاكمة تتصارع على الحصص. لكن التطور الذي برز أخيراً في المعركة التي خاضها ميشال عون ضد الرئيس نبيه بري، يعيد خلط الأوراق في المعركة السياسية، إذ سيكون عون قد فتح معارك ضد كل القوى الأخرى، لا يسلم "حزب الله" منها ليس بالخلاف السياسي بل بطلب مساندته، وهو الذي يفضل أن يبقى على الحياد في الموضوع الحكومي لحسابات داخلية وإقليمية، ولا يستطيع أيضاً الوقوف الى جانب عون ضد بري ولا المفاضلة بينهما، كما أنه يدعم سعد الحريري لرئاسة الحكومة لأسباب لها علاقة بالتوازنات والعلاقة مع البيئة السنّية في البلد.

الخطوة الأولى للحل هي تشكيل الحكومة. لكن المشكلة لا تزال عند ميشال عون الذي يرفع من سقوفه واستعصاءاته، ويحمل على كتفه طموحات رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الرئاسية، علماً أن الأخير يختلف مع معظم القوى ولا إجماع عليه رئيساً في الاستحقاق المقبل، ولا يمكنه تكرار تجربة عون التي جاءت به رئيساً في 2016، خصوصاً أن الظروف مختلفة وحسابات القوى التي انتخبت عون تختلف اليوم، حتى لو كان الانتخاب في ذلك الوقت بمثابة التعيين، إذ بقي البلد معلقاً في الفراغ أكثر من سنتين حتى ساعدت التطورات الإقليمية والدولية والاتفاق النووي الأميركي الإيراني في انتخابه. لذا لا يمكن فرض باسيل للرئاسة وهو أمر لم يقتنع به عون على رغم كل الرسائل الموجهة إليه.

المشكلة الثانية التي جعلت البلد معلقاً أن عون لا يريد الحريري رئيساً للحكومة، لكنه لا يستطيع أن يلغي تكليفه دستورياً. لكن معركته الجديدة بعد الحريري، ضد نبيه بري، جعل الأخير يكرّس معادلة جديدة، أي التمسك بالحريري رئيساً مكلفاً، وهذا ما تلقفه بقوة مستمراً بشرعية في موقعه ومستفيداً من الحملات التي قادها عون وباسيل ضده، بدءاً من الالتفاف السني حوله، ودعم المكوّن الشيعي له، إضافة الى انكشاف أهداف التيار العوني في ما يتعلق بالسلطة وبالصلاحيات والهيمنة على الحكم والحكومة وضمان مصالحه في الاستحقاقات المقبلة.

خلف استعصاء عون مواقف لا تمت بصلة الى الإصلاح أو ما يرفعه صهره باسيل من شعار حماية المسيحيين. يتبين أن لديهما حسابات رئاسية بالدرجة الأولى، وهذا ما يمنع تشكيل حكومة برئاسة الحريري، إذ إن باسيل يريد تكرار تجربة 2016 عندما حصلت التسوية بإيصال عون إلى الرئاسة. لكن الأمور مختلفة اليوم، البلد في حالة انهيار ولا يحتمل فراغاً كالذي حدث بين 2014 و2016 عندما عُلقت المؤسسات إلى حين انتخاب عون، كذلك "حزب الله" لديه مصالح واعتبارات داخلية وإقليمية هي ليست نفسها مقارنة بالمرحلة السابقة، فهو لم يعد بحاجة كثيراً إلى حلفائه للتغطية على مشاريعه، إضافة الى أن تجربة العهد الرئاسي لم تحقق أي انجاز يبنى عليه، لا بل انزلق البلد وتدحرج نحو الانهيار، فيما الممارسات السياسية لرئيس الجمهورية وتياره لم تتغير وهي نفسها التي ساهمت مع كل الطبقة الحاكمة في النزول إلى القعر. والواضح أن العزلة التي يعانيها باسيل دفعت رئيس الجمهورية الى التشدد أكثر، فيما المعلومات تشير الى أن المجتمع الدولي والعربي لا يحبذ ترشيح باسيل للموقع الرئاسي، فيما ارتفع رصيد قائد الجيش جوزف عون الذي يعرف كيف يوازن بين موقعه العسكري وأي دور سياسي محتمل من دون أن يقطع مع أحد خصوصاً رئيس الجمهورية.

كل الوقائع تشير اليوم الى أن ميشال عون قرر أن يخوض معارك ضد الجميع، بأوهام الإصلاح والتغيير. المشكلة أنه يخوض صراعه كطرف سياسي في موقع الرئاسة ضد كل الأطراف الأخرى، ولا يمارس دور الحكم الذي يبادر ويصوغ التسويات، ومنها ما يؤدي الى تشكيل الحكومة. وبتمسكه بصلاحيات الأمر الواقع التي تكرست بالتحالف مع "حزب الله" منذ 2016، يدفع الأمور للانقلاب على اتفاق الطائف أي على الدستور، ويبرر ذلك أن كل القوى عرقلت مشاريعه، لكنه في الوقت نفسه كان يشترك في المحاصصة ويعزز وضعه من خلالها.

الاستعصاء السياسي لعون أدى الى تعطيل تشكيل الحكومة، وهذا ما حدث بالنسبة الى مبادرة رئيس البرلمان نبيه بري، حين أصر رئيس الجمهورية على تسمية وزيرين مسيحيين بعدما ضمن الثمانية وزراء، ليس لسبب إلا للتحكم بقرارات الحكومة من خلال الثلث المعطل، والذي يقدمه تحت عنوان الميثاقية وحصة الكتل النيابية الأكبر. يتبين من خلال ممارسته السياسية أنه لا يريد الحريري رئيساً للحكومة، وهو يعلم أن اعتذار الأخير لا يحل المشكلة بل سيزيد الأمور سوءاً لعدم قدرة اي اسم آخر في هذه المرحلة على تولي المسؤولية من خارج التغطية السنّية وسقوفها.

التصلب العوني يقيّد فرص الإنقاذ، كما أنه لا يعيد لجبران باسيل موقعه ودوره، ولا يعطيه حوافز لإعادة ترميم علاقاته واستعادة نبضه القوي مسيحياً ولبنانياً، ما لم يُعد النظر بكل ممارساته السياسية، فهو لن يستطيع القول بعد الآن أنه الرجل القوي لأن يكون في الموقع الأول لبنانياً، بعدما كان تمكن بدعم من "حزب الله"، من أن يكون قادراً على فرض الشروط والتحكم بآلية القرار الحكومي.

لن يتمكن ميشال عون أيضاً من الاستئثار، وهو بدا اليوم أكثر عجزاً عن إعادة تعويم موقعه بالعزف على العصب المسيحي، لا بل إن سياسته تؤدي الى مزيد من النزف في الساحة المسيحية. هذا يطرح تساؤلات عما إذا كان الرئيس سيتنبه الى أن الخروج عن التسويات يؤدي إلى إغراق البلد وسيادة الفوضى الأهلية والكيانية التي هي أسوأ من كل الحروب الأهلية...