كثيراً ما نقرأ في الصحف عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في تجاوزات حدودية أو انتهاكات عسكرية بحرية أو جوية. ولأن أحداً لا يتابع عمل مثل هذه اللجان بجدية فإنها تغلق ملفاتها وتُسجل القضية موضع الخلاف ضد مجهول. وبعد شهر أو أكثر تحدث مشكلة تبادل إطلاق نيران عبر الحدود، ويتم تشكيل لجنة أخرى لتقصي الحقائق يكون مصيرها كسابقتها.
تُسمى هذه اللجان في اللغة الإنجليزية Fact - Finding، وفي العادة يتم اللجوء إلى تشكيل هذه اللجان لتمكين القضاء والمجتمع والرأي العام الدولي، إذا كانت القضية ذات أبعاد خارجية، من الوصول إلى الحقائق في جرائم سياسية أو فظاعات إنسانية حتى وإن مرت على حدوثها عشرات السنين.
يُقال إن بداية تشكيل لجان تقصي الحقائق تعود إلى عام 1899 بين كل من بريطانيا وروسيا في أعقاب قيام أسطول البلطيق الروسي بإطلاق النيران نحو سفينة بريطانية ظناً منه أنها سفينة تابعة للأسطول الحربي الياباني، ما أدى إلى وقوع ضحايا من البحارة البريطانيين. وصدر قرار بعد ست سنوات بتعويض بريطانيا عن تلك الخسائر.
وفي بقايا العهود الاستعمارية تم في جنوب أفريقيا بعد عام 1990 تشكيل «لجنة الحقيقة والمصالحة» أو تقصي الحقائق لاستعادة حقوق أهل البلاد الأصليين من المستعمرين البيض، فقد فرضت الأقلية البيضاء التي استعمرت البلاد نظام الفصل العنصري «الأبارتايد» وهو شبيه بنظام الفصل العنصري الإسرائيلي القائم في فلسطين المحتلة ضد عرب فلسطين الأصليين الذين رفضوا الهجرة. وتعود قصة تشكيل هذه اللجنة إلى رسالة كتبها الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا إلى شعبه في السنة الـ28 من سنوات سجنه دعا فيها إلى تأميم الشركات والمشاريع البريطانية وإلغاء الاقتصاد العنصري وتمكين أهل البلاد الأصليين من إعادة توزيع الثروات مع أهمية قيام تعايش سلمي بين الجميع وتجاوز الماضي.
وعلى الرغم من وجود علامات استفهام كثيرة على لجان تقصي الحقائق الدولية، فإن الأمم المتحدة ترى أن هذه اللجان، التي يصفها البعض بأنها «مضيعة وقت وأموال»، يتزايد استخدامها للتصدي لحالات الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان ومكافحة الإفلات من العقاب.
وفي إطار عملها الأساسي، تقدم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الخبرة والدعم والمشورة إلى اللجان والبعثات في إطار منهجية التحقيق والقانون الدولي الواجب التطبيق. ويشمل هذا العون وضع الإرشادات الضرورية للعمل وسرية التحقيقات وتجهيز موظفين متخصصين في الجوانب الإدارية واللوجيستية والأمنية.
ومن بين خلاصات لجان تقصي الحقائق ما أعلنته الأمم المتحدة بشأن سوريا من أنه «لا توجد أيادٍ نظيفة»! واستمرار تعرض المدنيين لانتهاكات مروعة ومستهدفة بشكل متزايد من قِبل الجهات المسلحة سواء كانت تابعة لدول أو ميليشيات منفلتة (من تقرير صدر في سبتمبر/ أيلول 2020). وفي التاريخ نفسه أصدر فريق خبراء الأمم المتحدة البارزين والإقليميين ضمن لجان التقصي في اليمن تقريراً تحت عنوان «جائحة الإفلات من العقاب في أرض معذبة».
لكن اللجان تفشل في عملها في كثير من الأحيان، خصوصاً إذا كانت محلية وليست تحت إشراف دولي، مثل قيام رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي بتشكيل لجان تقصي الحقائق في اغتيالات شباب ناشطين عراقيين في بغداد وديالى وذي قار والبصرة وميسان، وتوصلت اللجان إلى بعض أسماء المتهمين، لكن الأمر انتهى مع تدخل قادة الميليشيات المنفلتة لإطلاق سراح الجناة. وفي حرائق المستشفيات الأخيرة لا توجد أي شرارة حقيقية لكي يتم تشكيل لجنة تقصي الحقائق، فوزارة الصحة غارقة في تهم الفساد كما يشير إلى ذلك الإعلام العراقي. والحرائق جزء من هذا الفساد لإتلاف الوثائق المالية والإدارية والعقود والشكاوى والمستندات القانونية. وتمت إقالة الوزير ليركب الطائرة ويعود من حيث أتى، ويتم تقييد الجرائم ضد مجهول معروف.
يقول قانونيون إن الكثير من الخطوات الممهدة لعمليات التقصي هي أساساً مبنية على الحق العام في معرفة جميع التفاصيل. وما يعنيه هذا المفهوم هو أن من حق المجتمعات التي آوت الضحايا أن يعلموا هويات المشتبه بهم. وينص قانون المركز العالمي لتمكين العدالة على «أن أي فرد عانى من أعمال وحشية ظلمته من حقه المطلق أن يعرف من هو المسؤول عمّا حدث له، وأي عائلة فقدت فرداً منها في ظروف غامضة، لديها الحق الكامل في معرفة مصيره. كما أن حق أي مجتمع حدثت فيه جرائم شنعاء أن يعرف سيرة حياة مرتكبيها من دون أي تعتيم للحقيقة أو إنكار لها».
ونص قانون منظمة الأمم المتحدة على أن مبدأ الحصانة والإفلات من العقاب أمر غير قانوني، ويجب التمسك بمعرفة الحقيقة وعدم انتهاكها، والحفاظ على كرامة الضحايا. ويشمل ملف الحقيقة حماية الأدلة وجمع وتخزين بيانات الضحايا للاستشهاد بها فيما بعد.
ولاحظ قانونيون أن المنظمات غير الحكومية التي تسعى لإظهار الحق انتشرت بشكل لافت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، خصوصاً في دول أميركا اللاتينية، وغواتيمالا بشكل خاص، وكذلك في آيرلندا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وكمبوديا وكولومبيا حيث تكثر الجرائم. وفي المنطقة العربية نجد دولاً رخوة وغير متماسكة مثل اليمن والعراق وسوريا والسودان ولبنان تفرض الضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية تشكيل لجان تقصي الحقائق فيها بسبب الفوضى الأمنية وانتشار الميليشيات وكثرة جرائم الاغتيالات والخطف والانفجارات والفساد بجميع أشكاله وألوانه.
وافق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مايو (أيار) الماضي، ولأول مرة، على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بعد العدوان الصاروخي الواسع على غزة. حظي القرار بموافقة 24 دولة ومعارضة 9 دول وامتناع 14 دولة. وطبعاً كانت إسرائيل والولايات المتحدة ضمن الدول المعارضة التسع مع أن القرار صدر استناداً إلى البند السادس الذي ينص على عدم استخدام القوة لتنفيذه، وهو ما يعني أن بإمكان إسرائيل أن ترفضه كأنه لم يصدر. بينما البند السابع تم تطبيقه على العراق في عام 1990 وجرى استخدام القوة لإخراج الجيش العراقي من الكويت وفرض حصار اقتصادي جائر على العراق. وفي الحيثيات كانت السلطة الفلسطينية وباكستان قد قدمتا طلباً لتشكيل اللجنة ومحاسبة المعتدي وتنفيذ القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني. وعدّت وزارة الخارجية الفلسطينية الدول التي لم تدعم القرار «أقلية غير أخلاقية تقف على الجانب الخاطئ من التاريخ وتكيل بمكيالين وتنافق وتدّعي التزامها بحقوق الإنسان وتنحاز في الوقت نفسه إلى إسرائيل وتشجعها».
ومن مساخر السياسة الدولية أن البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة أعربت عن «أسفها» على صدور القرار، ووصفته بأنه «يهدد بعرقلة التقدم الذي تم تحقيقه». والمقصود بـ«التقدم» هو وقف إطلاق النار ونقل بعض السفارات مقراتها من تل أبيب إلى القدس واستمرار توسيع المستوطنات وتوجهات للتطبيع بين بعض الدول وإسرائيل. إلا أن الجانب الفلسطيني قد يستفيد من موقف ميشيل باشيليه المفوضة السامية لحقوق الإنسان، التي قالت إن الضربات الصاروخية الإسرائيلية على قطاع غزة «قد تشكل جرائم حرب».
ومن حق العراقيين أن يقدموا أوراقهم وملفاتهم إلى الأمم المتحدة لتشكيل لجان، وليس لجنة واحدة، لتقصي حقائق الاحتلال الأميركي في 2003 القائم على مجموعة أكاذيب باعتراف كبار السياسيين الأميركيين، والتسلل الإيراني تحت جنح الاحتلال الأميركي إلى العراق ونهب ثرواته واغتيال علمائه وأساتذته الجامعيين والفنانين والأطباء وضباط الجيش والطيارين والعوائل المدنية ونهب تاريخ البلاد وآثارها ووثائقها.
لقد تقاسم المحتلون الأميركيون والإيرانيون قالب الحلوى... وعليهم أن يدفعوا الثمن... مهما طال الزمن.