اصطدم الرئيس نجيب ميقاتي، المكلف بتشكيل حكومة «المهمة الإصلاحية» وفق المبادرة الفرنسية، بطلب رئيس الجمهورية ميشال عون وتصميمه على تنفيذ التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، ومحاكمة الحاكم رياض سلامة، وإصدار حكم بحقه، نتيجة تحميله مسؤولية الانهيار المالي والنقدي والمصرفي، والتسبب بهدر المال العام، تمهيداً لإقالته. وذلك بعد فشل محاولات عدة سابقة لإقالته، على الرغم من موافقة رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ومعظم الوزراء، حيث اصطدم الجميع بموانع قانونية تحفظ حق حاكم مصرف لبنان بإكمال ولايته (6 سنوات)، والتي تنتهي في عام 2023، إلا في حالات أربع هي: العجز الصحي، الإخلال بواجبات الوظيفة (الرشوة، الاختلاس، وإساءة استعمال السلطة)، ومخالفة أحكام قانون النقد والتسليف لجهة التفرغ لوظيفته، وارتكاب خطأ فادح في تسيير الأعمال. ولذلك يراهن الرئيس عون وفريقه السياسي على القضاء لإثبات «فجوات» في ممارسات «سلامة» تحقق واحدة من الحالات الأربع أعلاه، وإصدار حكم بها، ليكون سبباً لإقالته. هذا مع العلم أن عملية التنفيذ تتطلب إصدار قرار من مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين، وهو أمر يطلبه عون من الحكومة المرتقب تشكيلها.
لكن سلامة الذي يعتبر مصرف لبنان مسؤولا عن السياسة النقدية فقط، وقد سجلت نجاحاً منذ تسلمه منصبه في أغسطس 1993، حيث ارتبط اسمه باستقرار سعر النقد في مستوى 1500 ليرة مقابل الدولار. وتمكن من دعم احتياطي العملات الأجنبية حتى بلغ 43 مليار دولار، لحماية «الليرة» والحفاظ على قيمتها.
أما السلطة السياسية الممثلة بوزارة المالية، فهي المسؤولة عن «السياسة المالية» وهدر المال العام نتيجة إنفاقها الكبير، مما أدى إلى خلل في التوازن المالي وتراكم العجز والاستدانة، حتى تجاوز الدين العام 100 مليار دولار، واضطر المصرف المركزي إلى استخدام احتياطه لتمويل نفقات الدولة، بما فيها سياسة الدعم التي تعتمدها خلافاً لنصيحة صندوق النقد الدولي.
فضلا عن إدارته لسندات الخزينة بالليرة واليورو، حتى وصل إلى «الخط الأحمر»، ولم يبق لديه سوى الاحتياطي الإلزامي (نحو 15 مليار دولار)، وهو ودائع للناس ممنوع قانوناً المس بها. لكن السؤال هو: كيف ستتعاطى السلطة السياسية الراغبة في استمرار الإنفاق المريح، كما هو قائم، ولا تريد التوقف عند الخط الأحمر؟.. وإذا كان قرار سلامة ثابتاً برفض تمويلها، فهل سيكون الثمن إقالته؟ لا شك في أن أهمية استقلالية «المركزي» عن السلطة السياسية تبرز انطلاقاً من أن أحد جوانب الكارثة التي حلت باقتصاد هذا البلد، ونقده ونظامه المصرفي، ناتج من تساهل «السياسة النقدية» في رسم الحدود الواضحة والصارمة بين وظائفها وبين سياسات الحكومات المتعاقبة. ويمكن الجزم بأنه لو تمكّن مصرف لبنان من أن يبقي «السياسة النقدية» بمنأى عن أهداف السلطة السياسية، وتأثير سياساتها المالية والاقتصادية المدمرة، لتجنّب البلد هذا الانهيار الكبير.
لقد وثقت دراسات صندوق النقد أهمّية استقلالية البنوك المركزية، واعتبرتها عاملا مهماً للاستقرار، بالنسبة للبلدان التي تسعى لتحرير قرارات «السياسة النقدية» من التأثير السياسي الذي قد يقوض أهداف البنوك المركزية ويخلق مخاطر طويلة الأجل تشكل تهديداً للاستقرار المالي والاقتصادي.
لكن في الوقت نفسه تبرز ضرورة «المساءلة الشفافة» لضمان الحوكمة الرشيدة والحيلولة دون تدهور المؤسسات على المدى الطويل. مع العلم بأن ضعف الحوكمة والفساد لا يقتصران على الإضرار بالاقتصاد، بل يتسلل تأثيرهما إلى المؤسسات ويضعف فعاليتها. والبنوك المركزية غير محصنة من هذه الآثار.
التعليقات