الباحث التونسي في العلوم الثقافية د.منجي الزيدي هو من استخدم الوصف الوارد في العنوان في كتابه «جماهير الثقافة»، وهو يتناول الإقبال الكبير من الشباب على الفضاء الافتراضي. ومفردة «التسكع» تنطوي على حمولة سلبية ترد في أذهان من يسمعها أو يقرأها، وبالفعل فإني حاولت أن أجد معنى إيجابياً للمفردة فلم أجد، فمفردة تسكع في معاجم اللغة لا تحمل سوى تفسيرات من نوع: يتَسَكع فِي الشَّوَارِعِ بِلاَ هدف، يتلكأُ، يتشَرد، يتِيه، يضلُّ، يتخبَّط، يتمادى فِي ضلاله، لم يهتد لِوجهتِهِ..الخ.
لكن منجي الزيدي لا يستخدم وصف التّسكع الافتراضي بأي من المعاني التي تحيلنا إليها معاجم اللغة، وإنما إلى النقيض تماماً، فهو يرى في هذا النوع من «التسكع» بمثابة الفضاء العمومي لفئة الشباب، وبوصفه فإنه «يشكّل حيزاً حميمياً خاصاً للشباب»، ملقياً باللائمة في لجوئهم إلى هذا التسكع الافتراضي على الكهول، لأنهم برأيه يحتكرون الفضاءات العمومية ويخضعونها لرقابتهم، فلا يجد الشبان متنفساً لأنفسهم فيها، ما يحملهم على أن يحوّلوا الفضاء الافتراضي إلى فضاء عمومي لهم، بما يحمله هذا التعبير من نزع لصفة الافتراضي، وتقريبه إلى حدود ليست ببعيدة من الواقعي أو الفعلي.
طبيعي أن الكهول الذين ألقى عليهم الباحث باللائمة، ينظرون للأمر نظرة سلبية وقلقة، لكن الباحثين، ومنجي الزيدي أحدهم، ينظرون للتسكع الافتراضي بوصفه، حسب الباحث، «عاملاً مساعداً على إقامة الروابط الاجتماعية والمحافظة على الاتصال بالآخرين من خلال تقاسم أشكال من الثقافة والموضة والموسيقى والميديا»، و«شكلاً من أشكال الحضور المشترك لتكوين نظرة للعالم».
يحتمل هذا الرأي النقاش بطبيعة الحال، ولكن لا يمكن إغفال أوجه الوجاهة فيه، في تشخيص حقيقة ما بات للعالم الافتراضي من حضور واقعي. ومع أن العالم الرقمي أصبح منافساً جديّاً لوسائل الإعلام التقليدية التي كانت تحتكر مهمة صناعة الرأي العام أو تكييفه، لكنه أيضاً لم يؤد إلى مصادرة هذا الدور كلياً منها، خاصة حين تتسع مساحة حرية التعبير في المجتمع المعني، ما يساعد الإعلام التقليدي على البقاء كمنصة للسجال بين الآراء ووجهات النظر المختلفة.
لا يقتصر الأمر على أجهزة الإعلام وحدها، وإنما يشمل عالم الترفيه، الذي يمكن إدراج التلفزيون والسينما فيه، وهو ما خصّه الباحث المذكور بفقرات في كتابه حين لاحظ أن ما وصفه ب«التلفزيون الرقمي» أتاح أشكالاً جديدة من المضامين التلفزيونية ومن مساحة استهلاكها، حيث بات أمام المشاهد «تدفقات تلفزيونية وسجل من الاختيارات للمضامين السمعية البصرية التي يمكنه الإبحار فيها كما يشاء».