تكتسب التجربة الديمقراطية المغربية أهمية كبيرة بين التجارب الديمقراطية العربية المحدودة، بكل أسف، لأسباب كثيرة؛ أولها لعراقتها تاريخياً، وثانيها لأنها نجحت في تقديم نموذج متقدم من الأخذ بأهم المبادئ التي تأسست عليها الديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية التمثيلية، لأن نجاحها كان يمثل شعاع أمل يمكن أن تحتذي به دول أخرى للجمع بين الاستقرار الآمن والتقدم من جهة والتمتع بدرجة عالية من المشاركة السياسية الشعبية من جهة أخرى، لكن هذه التجربة الديمقراطية المغربية تواجه اختباراً صعباً هذه الأيام بعد النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات العامة الأخيرة التي جرت يوم 8 سبتمبر/ أيلول الجاري.
فقد أظهرت هذه النتائج موقفين شعبيين يصعب تجاهلهما.. الموقف الأول يمكن تسميته ب «التصويت السلبي» أو «العزوف الانتخابي» حيث لم تشارك نسبة محترمة في الانتخابات، وهذا موقف لا يخص حزباً بعينه أو حكومة بعينها بل يخص النظام الانتخابي كله، لأن البعض يراه غير كاف، فالنتيجة المعلنة تشير إلى أن نسبة المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات الخاصة بالبرلمان المغربي لم تزد على 50,18% من إجمالي من لهم حق التصويت. ويقول مراقبون بأنه لولا أن هذه الانتخابات للبرلمان جاءت متزامنة في ذات اليوم مع المجالس المحلية والجهوية لتدنت نسبة المشاركة إلى ما دون ال 30%. هذا يعني أن الشغب المغربي رفع «الكارت الأحمر» أمام الحكومة الجديدة، إذ عليها أن تواجه هذا التحدي وتضعه نصب عينيها.
أما الموقف التصويتي الثاني فلا يقل في أهميته عن الموقف الأول من خلال ما يعرف ب «التصويت الانتقامي» أو «التصويت العقابي» لحزب العدالة والتنمية المحسوب على تيار الإسلام السياسي، وبالتحديد تيار الإخوان المسلمين. فقد صوت الشعب المغربي بجدارة ضد هذا الحزب، وهوى به إلى أسفل الأحزاب الأخرى المنافسة والهامشية. فحزب العدالة والتنمية يحكم المغرب منذ موجة ما سُمي «الربيع العربي»، رغم أن المملكة المغربية لم تشهد انتفاضة شعبية على غرار ما حدث في تونس المجاورة وفي مصر على وجه الخصوص. صوت المغاربة لهذا الحزب في الانتخابات التي جرت عام 2011 بدافع من موجة عاطفة شعبية، في محاولة لمجاراة تلك الموجة التي أخذت قدراً غير قليل من الترويج، وظل هذا الحزب يحكم المغرب منذ عام 2011 حتى سقط في الهاوية في انتخابات الثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري.
فبعد أن كان هذا الحزب يحظى بأغلبية كبيرة ومسيطرة داخل البرلمان ضمت 112 مقعداً في انتخابات 2011 وزادت إلى 125 مقعداً في انتخابات عام 2016، عاقب الشعب المغربي حزب العدالة والتنمية وهوى به إلى المرتبة الثامنة لتتجاوزه كل الأحزاب المنافسة وبعدد من المقاعد لم يتجاوز 13 مقعداً من إجمالي عدد المقاعد البالغ 395 مقعداً.
لم يتوقف العقاب عند هذا الحد بل إن الإنتقام الشعبي لهذا الحزب بلغ ذروته بتعمد إسقاط معظم رموزه وقياداته وعلى رأسهم أمينه العام رئيس الحكومة المنتهية ولايتها سعد الدين العثماني. فكل قياداته من الصف الأول سقطت في صناديق الاقتراع.
خرج الإسلاميون من الحكم.. فهل من سيحكمون المغرب لديهم ما يعفيهم من العقاب؟ بمعنى آخر.. إذا كان لدى الشعب المغربي مآخذه وأسبابه لمعاقبة حزب العدالة والتنمية هذا العقاب القاسي.. فهل من سيرثون الحكم من بعدهم في مقدورهم تفادي كل تلك الأسباب سواء ما يخص الفشل في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، أو ما يخص الحريات العامة والديمقراطية، أو ما يخص السياسة العليا للبلاد، ومن ثم يمكن توقع نجاح هؤلاء في تصحيح المسار الديمقراطي المغربي وإثبات أن الديمقراطية المغربية بإمكانها امتلاك القدرة على التكيف مع الأزمات وتصحيح الأخطاء، وأن آلية الانتخابات وصناديق الاقتراع ما زالت قادرة على المجيء بمن هم أفضل؟
السؤال شديد الصعوبة؛ لأن الفرقاء الجدد الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة وعلى رأسهم حزب التجمع الوطني للأحرار وزعيمه عزيز أخنوش كانوا شركاء في الحكم مع حزب العدالة والتنمية حيث عمل عزيز أخنوش وزيراً للفلاحة والصيد منذ تشكيل الحكومة الأولى للعدالة والتنمية التي كان يرأسها عبد الإله بن كيران، واستمر في منصبه بعد انتخابات عام 2016، بل إنه لعب الدور الأهم في إزاحة بن كيران عن رئاسة الحكومة عندما قاد تحالفاً انتخابياً ضده بمشاركة أحزاب: الحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري، وفرض شروطاً للتصويت لصالح بن كيران، وعندما رفض بن كيران هذه الشروط تمت إزاحته من رئاسة الحكومة الجديدة وجيء بسعد الدين العثماني بديلاً بعد قبوله شروط عزيز أخنوش الذي تحول إلى الشخص الأقوى داخل الحكومة الجديدة برئاسة سعد الدين العثماني.
الآن يتزعم عزيز أخنوش عملية تشكيل الحكومة بتكليف من الملك بحصول حزبه على أعلى الأصوات (102 صوت) وسيجد نفسه مضطراً للتحالف مع ذات الأحزاب تقريباً التي شاركت حزب العدالة والتنمية الحكم طيلة السنوات العشر القادمة، فهل سيكون أمام هؤلاء ما يقدمونه لإرضاء الشعب المغربي واستعادة مصداقية الحكم؟ هذا هو التحدي الأكبر.
التعليقات