لا تحمل استطلاعات الرأي أخباراً جيدة للسلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس، ولا يبدو أن مزاج الشارع الفلسطيني قد تعافى من آثار المواجهات الأخيرة، وعمليات القمع والاعتقالات والتحقيق والمشاهد القاسية لعمليات التنكيل والمطاردة.

الحقيقة أن الأمور لم تكن جيدة هنا منذ فترة طويلة، ولكنها كانت تحتفظ، بما يشبه الاتفاق، بتلك الخيوط الهشة التي تغطي المسافة بين "الشارع" بقواه ومكوّناته، وبين "المقاطعة" بمؤسساتها وأجهزتها الأمنية، وثمة حزام عريض من المترددين كان دائماً يسمح بتغذية النظام القائم بشقيه وإبقائه قادراً على التنفس عبر علاقة ملتبسة تفتقر الى الثقة.

علاقة هشة ولكنها قادرة على البقاء، وثمة خطوط غير مرسومة ضمن نصوص، ولكنها واضحة في وعي السلطة والشارع، على السواء، لا ينبغي تجاوزها أو العبث بها.

على السلطة أن تستوعب حساسية الشارع الفلسطيني المفرطة، بسبب خبرته الطويلة مع الاحتلال وديكتاتوريات الطوق، لسياسات القمع والتنكيل والاحتجاز والتحقيق السياسي والأمني والاعتقال التعسفي والتوقيف، كذلك مظاهر العلاقة مع سلطات الاحتلال وحدودها، وعلى الشارع أن يتصالح مع حقيقة أن التغيير "هنا"، المقصود تغيير الصف القيادي، تحت بصر الاحتلال وأدواته ينبغي أن يحدث من الداخل، عبر آليات التوافق وضمن وسائل ديموقراطية لا تسمح بتدمير ما تبقى من العمارة السياسية الوطنية المتهالكة، وفي سياق تفهم الواقع المتداخل والمعقد مع "الاحتلال"، الاحتلال الذي يتدخل في مختلف مظاهر الحياة اليومية وغاياتها، من الاستيطان الى الطرق وإمدادات الطاقة والمعابر الحدودية، الى العمل حين يتوجه كل فجر عبر الحواجز أكثر من 140 ألف عامل فلسطيني للالتحاق بأشغالهم داخل "الخط الأخضر"، بينما تتسلل آلاف أخرى عبر الأودية والطرق الجانبية وبوابات المستوطنات، وصولاً الى التداول بعملة الاحتلال، وهذا يشمل الرواتب التي تدفعها السلطة لعشرات آلاف الموظفين المدنيين والعاملين في الأجهزة الأمنية.

لذلك تبدو النداءات التي تصدر، من الخارج غالباً، المنادية بـ"حل السلطة" و"تسليم المفاتيح"، أو التهديد بذلك وإطلاق الإشارات كحل أخير، مفتقرة الى التأمل في هذا الواقع المركب، وهو ما ينبغي أن يفسر، وإن بكثير من التبسيط، صعوبة الأمر في غياب البدائل التي توفر سبل العيش على الحدود الدنيا للفقر، ومن دون توفير مصادر مختلفة للاقتصاد الفلسطيني الصغير وتعثره الدائم.

تقريباً هذه هي المعادلة التي حطمتها السلطة في الشهور الأخيرة، عندما دفعت، من دون تبصّر، أجهزتها الأمنية وزجّتها في مواجهات لا مبرر لها مع المحتجين السلميين، في محاولة بناء خطوط جديدة وتغيير التوازنات مع الشارع، وهي المحاولات التي فاقمت عزلة القيادة وهلهلت حضورها ومنحت المعارضة مواقع جديدة في حزام المترددين.

كما تسببت في انقطاع قنوات الحوار مع القوى الأهلية والحزبية، بمكوّناتها المتعددة وخلافاتها الكثيرة؛ مؤسسات مجتمع مدني، قوى وأحزاب سياسية، حزام عريض من المستقلين يشمل شرائح من المثقفين والأكاديميين وتاركي الأحزاب، اليسار والقوميين على وجه التحديد، فصائل منظمة التحرير ونزعتها الانتهازية في العلاقة مع السلطة، وحركات الإسلام السياسي، "جهاد" و"حماس" و"حزب التحرير"....

تأجيل/إلغاء الانتخابات كان النقطة التي اندفعت بعدها الحوادث، من هناك حصل كل حادث صوته وصداه:

اغتيال نزار بنات وما تلاه من عمليات قمع غير مسبوقة حرك الشارع، الذي وفرت له جريمة القتل تحت التعذيب ممرات أبعد من دواري المنارة والساعة نحو حزام المترددين العريض والمحافل الدولية، الاتحاد الأوروبي أكبر المانحين ومؤسسات حقوق الإنسان الدولية.

لم تنجح نظرية "الضرب بقوة" التي تبنتها الأجهزة الأمنية لإضعاف الاحتجاج، بل انعكست النتائج مباشرة على الدور الباهت لحكومة اشتية، وهي حكومة "فتح"، التي تحملت عبء السخط الشعبي، رغم ثقة الأغلبية بأنها ليست صاحبة قرار في هذا الشأن.

عملية نفق سجن جلبوع دفعت خطاب السلطة وبلاغتها الوطنية وإعلامها الموجه نحو الحائط، وسمحت تحت الضغط الشعبي، بمساحة كافية تحدث خلالها قادة من "فتح" بلغة مختلفة، بحيث بدا أن بعضهم ينأى بنفسه عن الخطاب الرسمي ويستعيد، ولو الى حين، مفردات الحركة وقاموسها التاريخي.

ربما لهذا تبدو البطولات الفردية أملاكاً شعبية ومناطق للتجمع وتعزيز الاحتجاج، ومادة للتمجيد، في غياب شبه تام للندية أو المواجهة السياسية في سلوك القيادة السياسية التي تحاول بشيء من الابتذال الالتحاق بالحشود، وتمجيد هذه البطولات والدخول في السياق الشعبي الذي أغلق في وجهها.

من هنا تمكن قراءة نسبة الـ78% للمطالبين باستقالة الرئيس محمود عباس، كما ظهرت في آخر استطلاعات الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وهي مؤسسة ينظر اليها باحترام في أوساط الباحثين والعاملين في المجال.