قد يكون مصيباً كل ّمن يرفض مقولة إنّ "حزب الله" لا يحكم لبنان، ولكن يقع في خطأ فظيع كلّ من لا يوافق على أنّ هذا الحزب يتحكّم بلبنان وبشعبه.

وفي ظل حكم ضعيف ومضعضع وتائه وفاسد، يسطو المتحكّم على البلاد والعباد، بواسطة أدوات إرهابية وترهيبية مشهودة، يغطّيها بشعارات رنّانة طنّانة.

وقد دفع هذا الحزب المتحكّم، بما راكمه من ممارسات، إلى "تبريد" العلاقات التاريخية التي تربط لبنان بالمملكة العربية السعودية، قبل أن يتسبّب بقطعها، رافعاً، من أجل تبرير ارتكاباته، شعارات سيادية لا تتناسب وتبعيته المطلقة للجمهورية الإسلامية في إيران، وشعارات عن "حرية التعبير" لا تليق إلّا بأمثال سمير قصير وجبران تويني ولقمان سليم، وشعارات عن العزّة والكرامة لا تتواءم مع من دفع بشعبه الى عتبات القنصليات وقوارب الموت واستجداء رغيف خبز.

إنّ الشعارات، مهما جرى تجميلها، لا قيمة لها في السياسة، إذا تناقضت مع مبدأ "مصلحة الدولة العليا"، لأنّه، بمجرّد ثبوت هذا التناقض تتحوّل هذه الشعارات الى أداة تهديم جديدة، وما الدفعُ بلبنان الى الجحيم إلّا دليل على ذلك، فلو كانت الدول تعيش على الشعارات، لكان لبنان من أكثر دول العالم ثراء وموارد وهناء ورفاهية ولكان هو "الفردوس المفقود" الذي يفتّش عنه الشعراء.

ومن يجول على أحوال دول العالم، يجد أنّ تلك التي تُكثر من رفع هذه النوعية من الشعارات هي التي يعيش مواطنوها كابوساً إنسانياً مرعباً، فيما يتمتّع المتحكمون بهم ببحبوحة غير تناسبية.

إنّ إسقاط "المصلحة الوطنية العليا" من قائمة الاهتمام في أيّ دولة، إنّما يفرض عليها، نهجاً هو أقرب ما يكون الى تسلّط المافيات.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ليس هناك شعارات "أبهى" من شعارات الكولومبي الشهير بابلو أسكوبار، دفاعاً عن الفقراء في مواجهة "الأوليغارشية"، وإعلاء لشأن السيادة القضائية الوطنية ضد "الأمبريالية الأميركية".

إذن، إنّ الشعارات التي يرفعها "حزب الله" ومن يصطف خلفه، في مواجهة المملكة العربية السعودية، لا قيمة لها، ليس لأنّها لا تتناسب وحقيقة رافعيها فحسب، بل لأنّها، وهذا هو الأهم، لا توازن بين الطموحات، من جهة والإمكانات، من جهة أخرى.

لنأخذ النقاش الى مستوياته العملية، ولنبدأه من النقطة الأكثر واقعية: من يحتاج الى الثاني أكثر، لبنان أو السعودية؟

لم يكن هذا النقاش ليستقيم، لو كان يتّصل بدولة عدوّة، فالدول والشعوب ترتضي أن تدفع أغلى الأثمان، في مواجهة الأعداء، بل هو نقاش يتمحور حول دولة تربطها بلبنان علاقات تاريخية ممتازة ومميّزة، ويشهد لمساهماتها الإيجابية "القاصي والداني".

وعليه، ومن دون أيّ حاجة الى تقديم الأدلّة والبراهين التي يعرفها الجميع، فإنّه، في وقت لا تتأثّر فيه السعودية سلباً، جرّاء قطع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع لبنان، يتأكّد أنّ ذلك يجرّ على "بلاد الأرز" ويلات جديدة تُضاف إلى الكارثة المشهودة.

ولا يمكن في هذا الإطار، لكل من هو معنيّ بمراعاة مصلحة لبنان العليا سوى استحضار مسألتين: الأولى تتمثّل في اعتبار حكومة "معاً للإنقاذ" التي أصبحت تحتاج الى "إسعافات" بسبب "حزب الله" لا غير، أنّ ترميم العلاقات اللبنانية مع دول مجلس التعاون الخليجي عموماً ومع المملكة العربية السعودية خصوصاً هو "أولوية". أمّا النقطة الثانية، فتتمثّل في زيارة العمل المشتركة التي سبق أن قامت بها سفيرتا الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في لبنان الى السعودية، لإقناعها بالتخلي عن سياسة "عدم الإكتراث" بلبنان.

وهذا يعني أنّ جميع المعنيين بلبنان يعتبرون أنّ إنقاذه من الكارثة التي وقع فيها مستحيل بلا دخول فاعل للرياض على الخط.

ولكن "فريق الشعارات" الذي تحوّل إلى تاجر مازوت وأدوية ومواد غذائية مهرّبة عبر معابره من إيران، تحت ستار "محبّة الفقراء"، بدل أن يُراعي مصلحة لبنان العليا أخذ التأزيم الى مستوياته القصوى، مضيفاً كارثة إلى كارثة، ويأساً إلى يأس.

وهكذا، يجد اللبنانيون أنّ مجموعة مستقوية عليهم، تدفع بلادهم إلى عزلها عن مداها الإستراتيجي الحقيقي، في وقت "تستقتل" فيه الأنظمة التي تتبع لها أو تدافع عنها أو تعاديها الى مدّ الجسور مع دول مجلس التعاون الخليجي عموماً ومع المملكة العربية السعودية خصوصاً، وهذه هي حال نظام بشار الأسد في سوريا والجمهورية الإسلامية في إيران وإسرائيل التي لديها اقوى جيش في المنطقة وأكبر اقتصاد.

وهذه الجريمة التي يرتكبها "فريق الشعارات" بحق لبنان، بعدما حوّل نفسه إلى "مرتزقة" في الصراع الإقليمي، ما كانت ممكنة لو كان في لبنان حكم يستحق هذا الإسم، ولو بالحدّ الأدنى.

ولا تستقيم قيمة أيّ حكم، إذا لم يكن على رأسه أشخاص يفقهون المعنى الحقيقي للمصلحة الوطنية العليا.

في لبنان لا وجود لمثل هؤلاء الأشخاص، لأنّ مفهوم القائمين على الحكم للعمل السلطوي فيه هو مفهوم يقتصر على مصالحهم الشخصية، ولو اقتضى الأمر الإستعانة بقدرات المجموعة المسؤولة عن تهديم الدولة، فهذا يريد "توريث" صهره، وذاك يريد حماية نفسه من ملفات قضائية تستهدفه، وذلك يريد تحصين مكتسباته السلطوية.

وعلى يد هؤلاء يرتضي لبنان أن يخسر واحدة من أهم علاقاته في العالم، وينسف الطريق التي لا بدّ من سلوكها لإنقاذ نفسه من المأساة التي يعيشها.

حتى مع العدو، تحتّم "مصلحة الدولة العليا" التراجع عن خطوط المواجهة، وليس ثمّة أشهر من عبارة الإمام الخميني التي أطلقها عندما اضطر إلى الموافقة على وقف الحرب مع العراق:" لقد بعتُ روحي، وشربتُ سمّ الهزيمة".

إذا كانت هذه هي الحال مع الأعداء، فكيف تكون عليه الأمور، عندما تتّصل بعلاقة لبنان بالمملكة العربية السعودية؟

في الواقع، لم يصل الاجرام السياسي بحق بلد وشعب الى المستوى الذي وصل إليه بحق لبنان واللبنانيين.