ينسحب العام الجاري من المسرح اللبناني بمشهد مؤلم، لكنه لا يخلو من الحيرة والتشويق. فقد فضّل الفريق الاقتصادي في الحكومة "المعطّلة" أسلوب الغموض وعدم إطلاع الرأي العام على التوجّهات الرئيسية لاتصالاته مع صندوق النقد الدولي.

على المرء أن يتسلّح بالتفاؤل المفرط وأعلى درجات حسن النيّة لكي يصدّق أن البرنامج الإصلاحي التمويلي مع الصندوق سيمرّ بسهولة. فالبلد تمزّقه الانقسامات السياسية والإيديولوجية و"الأنانية"، ويفتقر إلى القيادة المستنيرة التي تقود الموجات الشعبية، بدل أن تسير وراءها، لأنها محكومة بهاجس التنافس السياسي والانتخابي.

ربما كان الخوف من هذه الانقسامات في الساحة السياسية هو الذي دفع اللجنة الوزارية إلى إخفاء معالم خطّتها، حماية لها من سهام المعترضين. لكن، من جهة أخرى، من حقّ الرأي العام معرفة التوجّهات الأساسية لمشروع يرسم مستقبل لبنان الاقتصادي لفترة طويلة، ويحدّد إمكانية استعادة الادّخارات العالقة في النظام المالي، والقسط الذي سيدفعه كلّ منّا ثمناً للخروج من المحنة.

اكتفى رئيس اللجنة الوزارية، نائب رئيس مجلس الوزراء، بالتصريح عن الرقم الإجمالي لخسائر النظام المالي التي قدّرت بحوالي 69 مليار دولار، من دون الإفصاح عن مكوّنات هذه الخسائر ولا عن طريقة توزيعها، ولو بشكل عام. وكان من الأفضل تعزيز هذا الرقم ببعض المؤشّرات الأساسية المجهولة، حتى لدى المختصّين، وهي تتناول، على سبيل المثال، تقديرات اللجنة للناتج المحلي الإجمالي والدين العام ومكوّناته والإحصائيات المصرفية، بعد التطوّرات النقدية خلال السنتين الماضيتين، إضافة إلى سعر الصرف المستهدف وسعر الصرف الذي استندت إليه التقديرات.

الوضوح، قدر الإمكان، هو أمرٌ ضروري لأن توافق اللبنانيين على مشروع حكومتهم مع صندوق النقد شرط حيوي، لا تستطيع الحكومة بدونه المضيّ في المفاوضات. ولا يقتصر التوافق على المكوّنات السياسية في الحكومة، بل يجب أن يشمل أيضاً القوى ذات المصلحة والمؤثّرة في المجتمع.

يمكن اللبنانيين أن يتعرّفوا إلى المسائل الساخنة التي تنتظرهم خلال المفاوضات الموعودة مع صندوق النقد الدولي من خلال الاطلاع على تجارب البلدان الأخرى. آخر هذه البلدان وأقربها إلينا تونس، التي تشكو من انكماش اقتصادي يقارب 9 بالمئة من الناتج المحلي وبطالة تصل إلى 18 بالمئة خلال العام الجاري وارتفاع غير مسبوق في نسبة الدين الخارجي، التي بلغت 110 بالمئة من الناتج. وأعربت "موديز" عن خوفها من عدم قدرة البلاد على تسديد ديونها الخارجية دون اتّفاق مع صندوق النقد.

ويريد الصندوق من تونس، وهذا يهمّنا، إجراء سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الموثوقة التي من شأنها أن تقلل الدعم وفاتورة أجور القطاع العام وإصلاح مؤسسات الدولة الخاسرة، وبالتالي الحد من العجز والديون.

بالعودة إلى لبنان واللجنة الوزارية، ودون الغرق في بحور "التنظير"، هناك ملاحظات لا بدّ منها.

الملاحظة الأولى، أن واجب اللجنة عدم حصر تقديراتها بخسائر القطاع المالي، أو ما أصبح يعرف بالفجوة، لأن الخسائر الناجمة عن الانهيار تطال كل الاقتصاد وكل المجتمع. وهذه مناسبة للإحاطة الشاملة بالخسائر على اختلافها، لكي يعرف اللبنانيون، وتعي الأجيال المقبلة، الثمن الباهظ الذي يصيب المجتمع من جراء اتّباع السياسات الخاطئة، بل الإجرامية، ولو من باب "القصد الاحتمالي".

الملاحظة الثانية، أن الدراسة مناسبة قد تكون نادرة للبحث في وظيفة الاقتصاد اللبناني الجديدة في الاقتصاد العربي الجديد. ففي خضمّ التطوّرات الهائلة في المنطقة العربية لا يجوز العودة إلى إعادة بناء اقتصادنا، الذي انهار، بنفس التصميم ونفس الحجارة، وبالفرضيات الوهمية السابقة بأن لبنان هو ممرّ الغرب إلى الاقتصاديات العربية، وممرّ الاقتصاد العربي إلى الغرب.

يتوقّع أن تنمو اقتصاديات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 5 بالمئة سنة 2022، و4.5 بالمئة سنة 2023، شرط استمرار وتوسّع حملات اللقاح ضدّ وباء كوفيد، ومستويات مرتفعة لأسعار النفط ونسب الإنتاج. لكن ما يعنينا يتجاوز هذه التطوّرات القصيرة المدى، بل يتناول ما يجري من تأسيس اقتصاديات عملاقة منفتحة على العالم في السعودية ومصر والإمارات العربية، واحتمال التحالف بين بعض الاقتصاديات العربية والاقتصاد الإسرائيلي.

فأيّ دور للاقتصاد اللبناني الصغير في زمن الاقتصاديات الإقليمية الكبيرة؟

إن لم نفكّر الآن، بعد الانهيار، فمتى نفكّر في مستقبل لبنان الاقتصادي؟