لبنان بلد غير طبيعي في منطقة غير طبيعيّة. يلاحق رئيس الجمهوريّة ميشال عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر جهاز أمني يمون عليه وقاضية تعمل بتعليمات منه، فيما تتصرف قوات الأمن الشرعية بما تمليه عليها القوانين المرعيّة. إلى إشعار آخر، لم يلق أحد القبض على سلامة. لا يحصل ذلك سوى في بلد لا مرجعية سياسية فيه إلا مرجعية “حزب الله”، أي إيران. لا مشكلة لدى “حزب الله” في ترك الأحزاب والقوى السياسية تتلهّى ببعضها البعض، ما دام هو الطرف الذي يقرّر في القضايا الكبيرة.
أجريت انتخابات نيابيّة أم لم تجر، سيبقى القرار في لبنان إيرانيّا. ففي كلّ يوم يمرّ تؤكّد إيران، عبر “حزب الله” أنّها ممسكة بالقرار اللبناني وأن كلّ ما هو مطلوب إيجاد وظيفة إيرانيّة للبنان. معنى ذلك أن لبنان صار الدويلة في دولة “حزب الله” وذلك بعدما كانت دويلة “حزب الله” في دولة لبنان. يؤكّد ذلك، أنّه للمرة الثانية في أقلّ من شهرين، يعقد معارضون بحرينيون مؤتمرا في بيروت لمهاجمة بلدهم وذلك من منطلق مذهبي ليس إلا.
ما كان ممكنا أن تعقد “حركة الوفاق” البحرينية، التي تحظرها مملكة البحرين منذ العام 2016 مؤتمرا آخر ومهرجانا خطابيا في بيروت خصّص لمهاجمة البحرين، لولا أنّ إيران قرّرت زيادة ضغطها على لبنان في هذه الأيّام بالذات.
ألم يحن الوقت ليقول الثنائي الرئاسي أنّه فشل في استعادة حقوق المسيحيين في لبنان والدفاع عن مصالحهم بواسطة سلاح "حزب الله"
أرادت “الجمهورية الإسلامية” في إيران تأكيد أن لبنان تحت سيطرة “حزب الله” وأن الدويلة التي أقامها الحزب هي الدولة في لبنان. أكّدت أن لا قيمة لما يصدر عن وزير الداخلية اللبناني بسّام مولوي وأن “حزب الله” يتصرّف بالطريقة التي يريدها وأن ليس من طرف يستطيع منعه من ذلك. لم يستطع وزير الداخلية اللبناني سوى الاعتراض والإشارة إلى أن ما يقوم به “حزب الله” يصبّ في المزيد من الإساءة إلى العلاقات التي تربط لبنان بدول الخليج العربي. تصرّف وزير الداخليّة، الذي يبدو أنّه شاب طيّب لا أكثر، مثلما يتصرّف أيّ مواطن لبناني، لا حول له ولا قوّة، عندما يتعلّق الأمر بـ”حزب الله”.
من هنا، تبدو الرسالة الإيرانية الجديدة، وهي الثانية في غضون شهرين، واضحة كلّ الوضوح. فحوى الرسالة أن لبنان ورقة إيرانيّة لا أكثر وعلى المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة، استيعاب ذلك وأخذ العلم به. لبنان رهينة إيرانيّة. لبنان بلد تستخدمه إيران كيفما تشاء وفي أي اتجاه تشاء. الأكيد أن رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي يعرف ذلك قبل غيره ولا داعي لفتح تحقيق من أيّ نوع لمعرفة كيف وجدت حركة مصنّفة “إرهابيّة” في البحرين منبرا لها في بيروت تحرّض فيه على المملكة الآمنة التي لم تؤذ أحدا في يوم من الأيّام. أكثر من ذلك، قدمت البحرين كلّ الخير للبنان واللبنانيين ولم تتردّد في التعاطي معهم بطريقة تدلّ على أنّهم مواطنون من مواطنيها. هل هكذا يرد لبنان الجميل للبحرين؟
من الواضح أنّ لبنان ليس همّا إيرانيا. على العكس من ذلك، لبنان بالنسبة إلى “الجمهورية الإسلامية” بمثابة برتقالة (عونيّة) لا بدّ من عصرها حتّى آخر نقطة فيها. ربّما كان ذلك يفسّر تحالفها مع ميشال عون وجبران باسيل اللذين يمثلان “التيار البرتقالي” في البلد.
كلّما مرّ يوم، يتبيّن أكثر أنّ لا هدف لإيران عبر “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري”، سوى تدمير البلد الذي اسمه لبنان وعزله عن محيطه العربي، خصوصا الخليجي. تفعل ذلك من دون أي اهتمام بما يحلّ باللبنانيين وما يترتب على ذلك من قطع لأرزاقهم. لم تعد إيران تقرّر من هو رئيس الجمهورية اللبنانيّة فحسب، بل صارت تقرّر أيضا هل مسموح انعقاد مجلس الوزراء. في المقابل، لا يريد الحكم في لبنان استيعاب أنّ الموقف الخليجي منه موقف موحّد وأن لا خيار آخر أمام كلّ دولة من دول الخليج سوى الدفاع عن نفسها وعن مصالحها بطريقتها الخاصة. لا تستطيع المملكة العربية السعودية، مثلا، الوقوف مكتوفة أمام ما تعرّضت له انطلاقا من اليمن. لا تستطيع البحرين بدورها اتخاذ موقف المتفرّج في مواجهة التحريض الإيراني عليها انطلاقا من لبنان. ما لا بدّ من التذكير به دائما أن الخليج كلّه وقف مع البحرين وحال دون سقوطها بعد التحريض المذهبي الذي مارسته إيران في العام 2011 مستغلّة بدورها “الربيع العربي”. هذا “الربيع” الذي لم يكن سوى خريف… إلا إذا استثنيا مصر التي استطاعت التخلّص سريعا من كابوس نظام الإخوان المسلمين الذي لم يدم أكثر من عامين.
صمدت البحرين وستبقى صامدة في وجه التحريض المذهبي، لكن المقلق في الأمر أن إيران تبشر من خلال “الساحة” اللبنانيّة بمتابعة حملتها على تلك الدولة الصغيرة. تتابع إيران حملتها على البحرين التي استطاعت إيجاد موقع لها في المنطقة عن طريق نشر ثقافة التسامح مستفيدة من تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة ورؤية مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
في كانون الأول – ديسمبر الماضي، افتتحت جنوب المنامة أكبر كاتدرائية في منطقة الخليج سمّيت “سيدة العرب”. تتسع الكاتدرائية الكاثوليكية لـ2300 مصلّ. هل هذا ردّ آخر من إيران، انطلاقا من بيروت، مدينة لقاء كلّ الديانات السماويّة، على افتتاح الكاتدرائية الكبيرة في البحرين؟
يبدو مثل هذا السؤال مشروعا. ما يبدو مشروعا أكثر التساؤل عن موقف رئيس الجمهورية اللبنانية وصهره جبران باسيل عندما يتعلّق الأمر باعتداء على البحرين مصدره لبنان. ألم يحن الوقت ليقول الثنائي الرئاسي أنّه فشل في استعادة حقوق المسيحيين في لبنان والدفاع عن مصالحهم بواسطة سلاح “حزب الله”… وأن سكوته لا يمكن تفسيره سوى بالعجز اللبناني والفشل الذي يعاني منه الرهان على حلف الأقلّيات في المنطقة؟
آن أوان وضع الأمور في نصابها ومصارحة اللبنانيين بأن بلدهم صار في خبر كان وأن دول الخليج لم تعتد عليه بأي شكل. على العكس من ذلك، استطاعت إيران تحويل البلد الصغير إلى قاعدة من قواعدها في المنطقة لا أكثر ولا أقل… لبنان بلد غير طبيعي في منطقة غير طبيعيّة.
التعليقات