أسهمت التقنية بأنواعها كافة في رفع إنتاجية العامل بدرجة هائلة خلال النصف الأخير من القرن المنصرم وبداية القرن الحالي، فاجتماعات العمل بين الخبراء والمستشارين والموظفين أصبحت سهلة حتى لو كانوا في قارات متباعدة، وكذا طباعة الخطابات وحفظها آليا يوفران وقتا هائلا، ويمكن الرجوع إليها والاستفادة منها عديدا من المرات بسهولة ويسر، وأهم من ذلك سهولة تبادل البيانات، ثم إن إنجاز حسابات الشركات وتقييم الأداء يتمان بشكل آلي وآني دون الحاجة إلى تجنيد عشرات المحاسبين والخبراء لإنجاز المهمة، كما توفر المراسلات الإلكترونية السريعة - منخفضة التكاليف - كثيرا من الجهد والمال. هذه الأمثلة غيض من فيض!
من المؤكد أن أسبوع العمل لمدة أربعة أيام يعد مفهوما جديدا نسبيا، ظهر بفضل التقدم التقني الهائل والمذهل على العقود الماضية، كما ذكر آنفا، فلم يخطر على البال تقليص أيام العمل، فكانت الخشية دائما من زيادة ساعات العمل! وتشير تجارب الفكرة إلى نتائج مثيرة. فقد كشفت بعض الدراسات أن ساعات العمل الطويلة المرهقة تؤدي إلى ضعف الإنتاجية. وجاءت نتائج دراسة في نيوزيلندا، أن تجربة العمل لمدة أربعة أيام عمل في الأسبوع، لم تؤد إلى محافظة الموظفين على مستوى الإنتاجية نفسه فحسب، بل أظهر الموظفون تحسنا في الرضا الوظيفي والعمل الجماعي والولاء لمؤسسات العمل، إضافة إلى تحقيق نوع من الموازنة بين العمل والحياة مقابل انخفاض الإجهاد والتوتر، مع عدم الإضرار بناتج الشركة!
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تقبل الشركات بهذا التحول؟ والإجابة "نعم"، خاصة أن التطورات التقنية تجعل من الممكن للموظفين إنجاز القدر نفسه من العمل في وقت أقل. ومن المتوقع أن تؤدي تقنية الذكاء الاصطناعي، إلى إحداث تغييرات كبيرة في كل القطاعات وفي معظم الدول، حول كيفية العمل وساعات الدوام، بل سيصبح أسبوع العمل من أربعة أيام حقيقة واقعة.
في الوقت الحاضر هناك ثماني دول طبقت نظام العمل أربعة أيام أو في مرحلة التجربة، ومنها بلجيكا التي لا تقدم أسبوع عمل لمدة أربعة أيام فحسب، بل تمنح الموظفين أيضا الحق في تجاهل الرسائل المتعلقة بالعمل وإيقاف تشغيل أجهزة العمل بعد ساعات العمل. كما دعمت رئيسة وزراء نيوزيلندا فكرة العمل أربعة أيام، لاعتقادها بأنه لا يحسن التوازن بين العمل والحياة فحسب، بل يعزز اقتصاد الدولة. من جهة أخرى، بادرت حكومة اليابان إلى حث الشركات على بدء أسبوع عمل لمدة أربعة أيام لتحسين التوازن بين العمل والحياة. كما قدمت الحكومة الأيرلندية برنامجا تجريبيا لتقييم فكرة العمل أربعة أيام، وقدمت دعما للدراسات والبحوث في هذا المجال. ومن جانب آخر، أعلنت مبادرة في اسكتلندا لتجربة أسبوع العمل أربعة أيام، وأظهرت التجربة حتى الآن نتائج إيجابية.
ولا ينبغي أن نذهب بعيدا، فقد تم تطبيق نظام العمل لأربعة أيام مطلع هذا العام، وذلك لتحسين التوازن بين العمل والحياة والإنتاجية. وتقوم إسبانيا بتجربة العمل لأربعة أيام. وبالمثل، قدمت آيسلندا تجربة مدتها أربعة أعوام في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 لتجربة أسبوع العمل لمدة أربعة أيام، وتشير نتائجها الأولية إلى تحسن في الإنتاجية بشكل ملحوظ.
وأخيرا من المتوقع أن تحدث تغيرات في بيئات العمل وساعات الدوام نتيجة التطورات التقنية التي أحدثت زيادة في الإنتاجية من جهة، وزيادة في التوترات والتأثير في حياة الأسر من جهة أخرى، ما يجعل العمل لأربعة أيام في الأسبوع أمرا مقبولا، بل ضروريا لإحداث توازن بين العمل والحياة الأسرية، بشرط عدم التأثير في قدسية يوم الجمعة في المجتمعات الإسلامية.