البوصلة الاستراتيجية التي سعى قادة دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" الى تطويرها وتحديثها في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا ما زالت تفتقر الى الدقة لأن لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائله للتشويش على البوصلة الغربية ولديه أيضاً تصوّره لما من شأنه الالتقاط بالبوصلة الروسية التائهة.
واضح أن أسلحة الدمار الشامل دخلت عنصراً في حسابات الجميع بلغةٍ علنية لها نكهة الإنذار الحاسم القريب من الخطوط الحمراء. الرئيس الأميركي جو بايدن قالها بصراحة إنه في حال استخدام روسيا الأسلحة الكيماوية، فإن الولايات المتحدة ستجيب بالمثل. إنما أين وكيف؟ هذا هو السؤال.

قمّة حلف شمال الأطلسي التي عُقِدت هذا الأسبوع تجنّبت اعتماد لغة الخطوط الحمراء التقليدية خوفاً من تداعياتها ليس فقط بردود فعل روسية تصعيدية، وإنما أيضاً إدراكاً منها أن ثمنها باهظ على الدول الأوروبية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حرِص على إبعاد لغة الخطوط الحمراء عندما وصف أجواء القمم الاستثنائية التي عُقِدت في بروكسيل وتبنّت عقوبات إضافية ضد روسيا كجزء من استراتيجية أوسع لحلف شمال الأطلسي.

أحد أهم أركان البوصلة الاستراتيجية لـ"الناتو"، بحسب الرئيس الأميركي جو بايدن، هو وحدة غير مسبوقة في صفوف دول حلف شمال الأطلسي، ليس بمجرد شعارات سياسية تضامنية وإنما بإجراءات عسكرية، وباستعدادات عمليّة لتوسيع عضوية "الناتو"، وبضخ الأسلحة المتطوّرة والمتفوّقة ومضاعفة الميزانيات العسكرية، ليس فقط في ساحة الحرب الأوكرانية وإنما أيضاً في كامل أوروبا الشرقية.

اللافت هو سخرية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من إنجازات "الناتو" وتصنيفه لبعضها بالمتأخِّرة تأتي على أنقاض أوكرانيا. "نحن ممتنون لكم، ولكن"، قال زيلينسكي بعدما ازدادت الصورة أمامه وضوحاً: حرب أوكرانيا هي ساحة حرب بالنيابة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ودول حلف "الناتو" لن تتدخل عسكرياً بصورة مباشرة على نسق فرض حظر الطيران في الأجواء الأوكرانية. أقلّه ليس الآن. وربما بعد فوات الأوان.

زيلينسكي مستاء لأنه افترض أن إخراج أوكرانيا من الحياد نحو الانتماء الى حلف "الناتو" سيضمن لها حماية غربية شاملة في وجه روسيا. وها هو اليوم وسط حرب روسية في أوكرانيا قد تؤدي الى تقسيمها رسمياً أو تدميرها فعلياً. وهذا ما لم يكن، لربما، في حسبان زيلينسكي الطامح لعضوية "الناتو".

معنويات الشعب الأوكراني والجيش والمتطوعين عالية إزاء مشهدٍ مزرٍ لأداء القوات الروسية ومعداتها في الحرب الأوكرانية. المعنويات مرتفعة أمام تدفق التعاطف العالمي مع أوكرانيا وتفاقم الغضب والكراهية لما تقوم به روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. إنما في نهاية المطاف، كان في وسع أوكرانيا وقيادتها تجنّب مصيرها القاتم لو تمهّلت في مسألة الانتماء الى حلف شمال الأطلسي. هذا حقها- سيُقال. وهذا صحيح. هذا من شأن الشعب الأوكراني ليُقرّر أن يكون انتماؤه غرباً بقيم غربية- سيقال. وهذا صحيح أيضاً.

المشكلة تكمن في استغلال السياسة للقيم للوصول الى غايات الدول السياسية والاستراتيجية. هكذا تم تدجين العراق، باسم الديموقراطية، ليتحوّل من دولة بوزن أساسي في المعادلة الاستراتيجية الإقليمية، الى بلدٍ مُستباح ومُمزّق ليس فيه سوى طعم فرض السلطة الإيرانية عليه ورائحة الطائفية. وللتأكيد، ليس المقصود إطلاقاً المقارنة بين مسألة أوكرانيا ومسألة العراق، وإنما المقصود حصراً هو ذلك الكلام عن الديموقراطية والقِيَم والحرية تبريراً لتدمير الدول، عمداً أو سهواً.

كل هذا لا ينفي أمراً بديهياً وهو أن فلاديمير بوتين أساء التقدير وأساء الحسابات وأساء الرهان في مغامرته الأوكرانية الفاشلة - ولا يزال. لا يزال فلاديمير بوتين يعتمد المنطق اللامنطقي ذاته الذي أدّى به الى إيصال روسيا وإيصال نفسه الى حافة الهاوية ذات الرمال المتحركة. فهو اليوم، كما بالأمس، يعتقد أن المزيد من التصعيد مع الغرب سيؤدّي بالولايات المتحدة وبالدول الأوروبية الى التراجع أو اتخاذ خطوة الى الوراء. وهنا المشكلة. المشكلة هي أن ليس بوسع قيادات "الناتو" أخذ خطوة الى الوراء الآن، ولا بوسع بوتين أن يتراجع أو أن يتوقف عن حربه الأوكرانية. وهذه مشكلة خطيرة وكبيرة.

ما حدث في قمم "الناتو" والاتحاد الأوروبي يوم الخميس الماضي يبدو ظاهرياً أنه ليس تصعيدياً. فقادة هذه الدول لم يتبنوا حظر الطيران الذي يطالب به زيلينسكي والذي سيورّط "الناتو" في الحرب الأوكرانية بصورة مباشرة، برأيهم. وهذا ما قرروا تجنّبه اليوم. هؤلاء القادة لم يرسموا الخطوط في الرمال ولم يحددوا معالم الخطوط الحمر- وهذا مطمئن اليوم والآن. ولكن، إن قرارات هذه القمم انتقالية، وليست نهائية. بكلام آخر، هذه محاولات لتجنّب أزمة عالمية الآن واليوم، لكن الاستعدادات الاستراتيجية ماضية الى الأمام لأن الوضع في غاية الخطورة.

هنا بعض الأمثلة عند قراءة القرارات الانتقالية Transitional، المُلطَّفة وتلك المُبطَّنة في الاستعدادات الجارية: قمّة "الناتو" استبعدت خيار المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا، لكنها لمّحت الى حق دول مثل بولندا أن تتصرّف بمفردها إذا شاءت ذلك. ثم إن القمّة أقرّت المساعدات العسكرية الضخمة لأوكرانيا بهدف استغلال الضعف والوهن في القوات الروسية التي ستحتاج الى المزيد من عناصر الجيش والمتطوعين الأجانب. تقدير "الناتو" هو أن هذه حرب طويلة في أوكرانيا، وهدف الحلف فيها يجب أن يكون إضعاف روسيا بصورة جدّيّة وبنيويّة. وهذا يتطلَب مضاعفة المساعدات العسكرية النوعيّة لأوكرانيا بما فيها الصواريخ المضادة للطائرات.

روسيا لن تقف متفرّجة على تدفّق المساعدة العسكرية من "الناتو" الى أوكرانيا، بل إن بوتين، كما لمّحَ، ينوي تدمير كل هذه الأسلحة لدى دخولها الأراضي الأوكرانية ضمن استراتيجيته العسكرية. وعليه، ما يبدو ظاهرياً اليوم بأن تجنّب التصعيد والمواجهة المباشرة يخبّئ في طياته وضعاً في غاية الخطورة ينطوي على إمكان جدّيّ لمواجهة مباشرة بين "الناتو" وروسيا.

القرارات الاقتصادية التي صدرت عن القمم الاستثنائية في بروكسيل انطوت على عقوبات جديدة تمنع روسيا من استخدام احتياطها الضخم من الذهب والذي بدأ بوتين بتكديسه منذ عام 2014 أي بعد احتلاله لشبه جزيرة القرم. يُقدّر هذا الاحتياطي اليوم ما بين 100 مليار و140 مليار دولار، والغرب عازم على منع بوتين والبنوك الروسية من الاستفادة من الذهب للقفز على العقوبات وللحصول على العملة الصعبة. ثم أن الاتحاد الأوروبي رفض طلب روسيا أن يتم دفع الصادرات النفطية الروسية بالروبل. وهذا بدوره يشكل خطوات نحو المواجهة.

الرئيس بوتين قرّر التصعيد في مسألة الغاز الروسي، مقابل التصعيد الغربي بالذهب وبالنفط. فقد أمهل الرئيس الروسي شركة غازبروم Gazprom لفترة أسبوع فقط للتوصل الى اتفاق مع الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الروسي -وفي طليعتها ألمانيا وإيطاليا والنمسا وهنغاريا وغيرها- وإلّا، فإنه سيقطع صادرات الغاز الروسية التي تقدّر بنسبة 40 في المئة الى هذه الدول. في اعتقاد أحد الخبراء، "أن هذا أكثر جديّة من الأزمة الأوكرانية لأنه عبارة عن مواجهة روسية مباشرة مع "الناتو". فقطع إمدادات الغاز الى أوروبا كارثة أكبر من الحرب"، لروسيا وللدول الأوروبية.

حرب العقوبات والغاز والنفط والذهب والعملات قد لا تقتصر على إجراءات هنا وهناك، بل قد تؤدّي الى عزل روسيا بصورة كاملة ومباشرة، بحسب هذا الخبير. تطويق روسيا، في حال قيامها بقطع الغاز عن أوروبا قد يسفر مثلاً عن منع الشاحنات من العبور من والى روسيا عبر فنلندا وبولندا. وهذا يعني تطويق الصادرات والواردات عبر البر بعد التطويق جوّاً وبحراً.

حتى الآن، ليس في الأفق مؤشرات الى حل سياسي بالرغم من تطمينات تركيا التي تسعى للعب دور بين روسيا وأوكرانيا. حتى الآن، لا يبدو أمام فلاديمير بوتين سوى استفحال الوتيرة العسكرية في أوكرانيا في تكثيف للعمليات العسكرية في المدن الرئيسية بما فيها كييف، بعد الانتهاء من ماريوبول. هذا يتطلّب هجوماً روسياً جديداً دموياً ومدمّراً، الأمر الذي يدفع "الناتو" الى خيارات لا تريدها وهي تستبعدها حالياً على نسق "التدخل الإنساني".
و"الناتو" يأخذ احتياطاته، لذلك ينشر 40 ألف عنصر في دول أوروبا الشرقية التي تنتمي الى "الناتو" مثل بولندا وسلوفاكيا، ولذلك يتحدث عن قوة الانتشار السريع لحلف شمال الأطلسي.

حلف "الناتو" في وضع خطير وموقع جرّ نفسه اليه باستفزازه روسيا عبر توسيع عضوية الحلف على الحدود مع روسيا. وبالرغم من تباهي الرئيس الأميركي بأهمية وحدة صفوف "الناتو" تحت قيادته، فإن الاقتصاد العالمي برمته في خطر، وتداعيات ذلك ستظهر قريباً في صفوف الرأي العام الأميركي والأوروبي. ذلك أن الوصول الى حافة حرب عالمية ثالثة بأسلحة دمار شامل ليس مجرد حملة لاستقطاب الرأي العام، أو لإظهار أخطاء فلاديمير بوتين وسوء حساباته التي قامت على تمزيق صفوف "الناتو" وليس توحيدها.

روسيا في مأزق خطير جرّها اليه رئيسها فلاديمير بوتين الذي قد يحاسبه الشعب الروسي لأنه نقل روسيا فجأة من النعمة والاستمتاع بنفوذها وبوضعها الدولي ورفاهيتها الى النقمة والإفقار والضعف والكراهية وحتى الاحتقار.

لقد أضاع بوتين البوصلة الاستراتيجية الروسية وأدهش العالم بركاكة تفكيره السياسي وركاكة مؤسسته الحربية.

هذا لا يعني أن إبرة البوصلة الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي استقرّت على ما هو في صالحها، بل إنها تتقلّب على رياح خطيرة تشمل حرباً عالمية نووية.