في كلِّ حضارة منظومة ثقافية تخدِم انتقالَ المحامِد المعنوية، والتقاليدِ الحسنة؛ من جيلٍ إلى جيل. تحافِظُ على جَمَاليَّة نقلِها، والأثر النفسي الإيجابي الذي تُحدثه في متلقيها، فينفعل بقيمها الصغير والكبير. ولدى العرب، لا تجد من لا ينفعِل، برواية بيت شعر، أو حكمة، أو غير ذلك من الآداب؛ التي صوغت بعناية، لتخلِّد السلوك الحسن، وتُورِث سامعها رغبة في محاكاته، ومجاراته.

فالأدبُ، كما جاءَ في «لسان العرب»، هو «الَّذِي يَتَأَدَّبُ بِهِ الأَديبُ مِنَ النَّاسِ؛ سُمِّي أَدباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إِلَى المَحامِد، ويَنْهاهم عَنِ المقَابح». ويُروى أنّ بيتَ الشاعرِ الجاهلي، طرفة بن العبد:

نحن في المشتاة ندعُو الجفلَى لا تَرى الآدبَ منَّا يَنتقرْ

هو أقدمُ استخدام للأدب، والعهدة على شوقي ضيف، والآدِبُ المقصود في البيت؛ هو الداعي إلى الطعام، ويفتخر طرفة أنَّ أدبهم هذا لا ينتقي في دعوته لطعام الشتاء أحداً بين الجائعين، بل يدعوهم جميعاً، دلالةً على الكرم.

وكثيراً ما مازحت أصدقائي المترجمين؛ ليتباروا في تفسير ترجمة كثيرٍ من الكليّات الجامعية العربية، لمسارات Art على أنها الآداب، فكلية الآداب هي Faculty of Arts، ولم أجد غير بضع جامعات هي القلة التي ترجمت التخصص على أنه هو الفنون لا الآداب. وليس في كليهما خطأ، ولكنّ فيه ملاحظة وتأمل، فالفنون والآداب يقومان بدراسة الأمر نفسه؛ ينقلان الأخلاق وقيم الجمال.

تداخلت في تاريخ العرب شخصيات اعتبارية، فظهر العالم والأديب، كما ظهر المعلّم والمؤدّب، ولذا قالوا «إنما اشتُقّ اسم المعلّم من العلم، واسم المؤدب من الأدب... والعلم هو الأصل، والأدب هو الفرع». قال الجاحظ (ت 255ه) في رسالته إلى محمد بن أبي دؤاد (ت 239هـ) المعروفة بـ«الأخلاق المحمودة والمذمومة»: «أجمعت الحكماء أنّ العقلَ المطبوعَ والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلّا بمعاونة العقل المكتسب. ومثّلوا ذلك بالنّار والحطب، والمصباح والدّهن. وذلك أنّ العقل الغريزي آلة والمكتسب مادّة، وإنّما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك».

بعد الأمويين؛ انتخب العباسيون؛ علماءَ ليقوموا بوظيفة المؤدّبين لأبنائهم، منهم أبو عبيد الله معاوية بن يسار، الموصوف بأنه سابغ الدرع في الكرم والبلاغة، كان مؤدباً في عهدة المهدي، أما الكسائي فكان مؤدّب الرشيد وأولاده.

يروي ابن خلدون في تاريخه الشهير بالمقدمة، أنّ خلف الأحمر، قال: «بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصيّر يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرِئه القرآن وعرّفه الأخبار وروّه الأشعار وعلّمه السّنن وبصّره بمواقع الكلام، وبدّئه وامنعه من الضّحك إلّا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القوّاد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرّنّ بك ساعة إلّا وأنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها من غير أن تُحزنه فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه. وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشّدّة والغلظة».

يقول شوقي ضيف: «منذ القرن الثالث للهجرة نجد الكلمة تدل -فيما تدل عليه- على السنن التي ينبغي أن تُراعَى عند طبقة خاصة من الناس، وأُلّفت بهذا المعنى كتبٌ كثيرة مثل: (أدب الكاتب) لابن قتيبة و(أدب النديم) لكشاجم المتوفى نحو سنة 350هـ‍. وتوالت كتب مختلفة في أدب القاضي وأدب الوزير وأخرى في أدب الحديث وأدب الطعام وأدب المعاشرة وأدب السفر إلى غير ذلك. على أن أكثر ما كانت تدل عليه مقطعات الأشعار وطرائف الأخبار».

وظلّت اللفظة حمالة تتَّسع وتضيق، فعطفاً على الآدِب المتقدّم عند طرفة، نشأت آداب الطعام، والكلام، والسلام، والمنام، وتطوّرت حتى وصلت إلى نظم سلوكية مرعية في حالات مخصوصة وأوقات معلومة، سواء في الآداب العامة أو غيرها، وصار يطلق على أغلبها التهذيب. ولعل الأدب بهذا المعنى، الذي يكون فقدانه -أعاذنا الله وإياكم- مدعاة للهجاء، فليس لدى المتنبي هجاء أقذع من قوله:

فَقرُ الجَهولِ بِلا عَقلٍ إِلى أَدَبٍ فَقرُ الحِمارِ بِلا رَأسٍ إِلى رَسَنِ

وبين كلّ هذه الآداب التعليمية والسلوكية صلة، فقراءة الأدب، تعلّم الإنسان قيمة الأخلاق، فيفطِن لجمالها، ويستلذ بها، ويسعى لها ولمعرفة أهلها.

ولطالما كانت الوصيّة لمن أراد أن يتخلّق بالخلق الحسن، هي أن ينكب على قراءة الآداب العامة، فإنّ من أراد لولده حسن الخلق فعليه بالكتب. وأذكر هنا أنّ الدكتور غازي القصيبي لمّا سُئل عن كتابٍ يحمله في حلّه وسفره، قال: «كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي؛ له في الواقع قيمة نفسية وقيمة فكرية، القيمة النفسية أنّي تلقيته من أبي رحمه الله، وكنت في سنة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، ومن غير مبالغة قرأت الكتاب أكثر من عشر مرات، وكل فترة أقرأه أو أُعيد قراءة أجزاء منه»، ثمّ مضى يحضّ الناشئين على قراءته. ولم يستوقفني استغراقه في إعادة القراءة، ولكنّ ما أعجبني، هو سلوك والده، الذي زكّى ولده بمثل هذه الهديّة.

ثمة أفعال عظيمة، وأخلاق نبيلة، تفيض بها جوانب حياتنا الحيّة، تستحق أن يخلّدها الأدباء بِفنّهم، لتكون في عداد الآداب، ينقلها المؤدِّبون من جيل إلى جيل.