مقتدى ورَّط حليفه بارزاني وفتح عليه أبواب نقمة الإطاريين والإيرانيين وأحبط العراقيين بوعوده التي لم تتحقق وأضاع عليهم ثمانية أشهر من أعمارهم في الثرثرة الفارغة والمعارك الفاشلة والزيارات والتغريدات البائسة.


والعهدة على الراوي، فقد تبلّغ رئيس التيار الصدري المشاكس برسالة إيرانية مختصرة في خمس كلمات فارسية، “تعود أم نعيدك؟ لا تتأخر” فلم يكن في حاجة إلى مترجم، لأنه يحسن القراءة والكتابة بلغة بني فارس.

فآمن أخيراً بأن المقاعد التي حظي بها في البرلمان، بسبب غياب المنافسين الشعبيين الحقيقيين، وبترفّع ثلاثة أرباع الناخبين عن التصويت، ليست هي التي تقرر من يقود ومن لا يقود، بل إن قيادة الحرس الثوري وحدها هي صاحبة القول الفصل، خصوصا في هذا الوقت العصيب الذي تمر به، وحتى إشعار آخر.

فبالرغم من أنه كان، منذ 2003، أحد أعمدة البيت الشيعي الإيراني، وأول من أنشأتْ له إيران جيشَ المهدي ثم سرايا السلام، باعترافات القيادي السابق في التيار الصدري، قيس الخزعلي، إلا أن نوازع الزعامة كانت تدفع به إلى التمرد على أشقائه حينا، وعلى وليّ أمرِه الفقيه حينا آخر، ثم يعود إلى بيت الطاعة ويلقي سلاحه ويعتزل، ثم يعجز مرة ثانية عن مقاومة النفس الأمّارة بالزعامة والقيادة فيعود إلى المشاكسة من جديد.

ففور إعلان النتائج الأولى للانتخابات التي جرت في تشرين الثاني – أكتوبر من العام الماضي قال له ناصحون كثيرون إن إيران لن تدع العراق لأحدٍ حتى لو كان مقتدى، وذلك لأن العراق حبلُ سرتها الذي لم يَبقَ لها معينٌ وطاعمٌ وكاسٍ غيرُه، خصوصا في هذه الأيام التي تتجمهر حولها الكواسج والتماسيح والأفاعي الأميركية والإسرائيلية والبريطانية والخليجية والأردنية لكسرها لا في العراق وحده بل حتى في داخل إيران ذاتها.

أدرك الصدر أن إيران الجريحة في دمشق وطهران، والعاجزة عن أخذ ثأرها من أميركا وإسرائيل وأعدائها العرب الكثيرين لن تتأخر عن البطش بمن يساعدهم

نعم، لقد فهم مقتدى أخيرا أن إيران في حاجة إلى انتصار، أيّ انتصار، لإثبات صعوبة طردها من مستعمراتها العربية، وإعادتها إلى داخل حدودها من جديد، خصوصا بعد هذه السلسلة الطويلة من الإهانات التي تتعرض لها في سوريا والعراق، وفي إيران نفسها، بفعل فاعل مجهول أحيانا، ومعروف في أغلب الأحيان.

فعلى الرغم من التهديدات المتوالية التي يطلقها قادة النظام العسكريون والمدنيون ضد إسرائيل فإن الاغتيالات الخطيرة لأهم علماء نوويين وخبراء في تطوير المسيّرات والصواريخ، لا تتوقف، سواء بالسلاح الأبيض، أو الصواريخ الموجهة أو المسيّرات، أو بالسمّ أو بحوادث المرور أو بافتعال الحرائق التي تتهم إسرائيل بتنفيذها، أو التي تعترف بالمسؤولية عنها، الأمر الذي أصبح مثارا لسخرية الساخرين.

قال محسن رضائي مساعد رئيس الجمهورية الإيرانية للشؤون الاقتصادية، “نتمنى أن ترتكب إسرائيل خطأ واحداً لتعطينا ذريعة لمحوها من الأرض”.

وقبلَه توعّد المتحدث باسم القوات المسلحة أبوالفضل شكرجي بمسح حيفا وتل أبيب “إذا ارتكبت إسرائيل أيّ خطأ، أو إذا شنت هجمات على منشآت نووية”.

وصرح العميد علي حاجي زاده قائد القوات الجوية للحرس الثوري قائلا “في حال قدمت إسرائيل لنا ذريعة سيكون ذلك بالتأكيد موعد تدميرها بالكامل”.

وكتب اللواء محمد باقري رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية على الصفحة الأولى من جريدة طهران “مجرد خطوة واحدة”، وأرفَقَها بخارطة عليها العشرات من المواقع الإسرائيلية الحساسة ملونة باللون الأحمر ليقول إنها ستدمر في بضع ساعات.

بالمقابل لم تتوقف إسرائيل عن ارتكاب كل أنواع الأخطاء التي ينتظرها قادة النظام في سوريا والعراق، وفي داخل إيران، ذاتها.

ومؤكد أن مقتدى الصدر أدرك، بالفطرة، أن إيران الجريحة في دمشق وطهران، والعاجزة عن أخذ ثأرها من أميركا وإسرائيل وأعدائها العرب الكثيرين لن تتأخر عن البطش بمن يساعدهم، ويعينهم على إضعاف نفوذها، سواء عن جهل أو عن قصد، لكي لا يتمادى.

وإذا كان مقتدى لم يفهم الرسائل الإيرانية السابقة المكتوبة بنيران مستشفى ابن الخطيب، ثم بحريق مستشفى الحسين في الناصرية، وحريق وزارة الصحة، ومعركة منظومات الطاقة، وتفجير مستودعات سلاحه في مدينة الصدر في العام الماضي، فإنه اليوم ليس في حاجة إلى رسالة جديدة أوضح مكتوبة هذه المرة بالنار، فتصل إليه في عقر داره في الحنانة مضمونُها أن دخول العملية السياسية والخروج منها من خصوصيات الحاكم الإيراني، ووفق شروطه وتوقيته، وعلى من يخالفها أن يتحمل النتائج.

وها هو العراق قد عاد إلى أحضان أصحابه الأولين، وعادت إيران هي الحاكمة الآمرة، وعاد العراقيون إلى جمهورية السلاح المنفلت والميليشيات التي أطلق عليها مقتدى اسم “الميليشيات الوقحة”، وكأن أحداً من الناخبين العراقيين لم ينتخب، وكأن الملايين لم تنتفض، وكأن مئات الشهداء لم يسقطوا بكواتم الطرف الثالث المجهول.

ولم ينتظر الإطاريون طويلا فاجتمعوا في قصر نوري المالكي ليحتفلوا بهذا النصر المؤزر، وليعلنوا “أن المرحلة المقبلة مهمة، وتستدعي الإسراع في بدء الخطوات العملية لاستكمال الاستحقاقات الدستورية، وانتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة منسجمة قادرة على تلبية مطالب العراقيين، وتؤمّن الحياة الكريمة، وتحفظ الأمن والاستقرار للجميع”.

ولم يرسم لنا طبيعة المرحلة السياسية والأمنية والاقتصادية القادمة كما فعل القيادي في تحالف هادي العامري المدعو حامد الموسوي الذي رد، خلال حديث تلفزيوني، على قول أحد القياديين في الحزب الديمقراطي الكردستاني إن “التحالف الثلاثي مع الصدر مازال مستمراً”، وهو ما اعتبره الموسوي محاولة لتحدي الإطاريين، فقال له “أسوقكم سوقا، أنا الأغلبية، أنا المكون الأكبر يا مسعود، يا حلبوسي. نحن اليوم 130 نائباً، هل أدع أربيل لتكون وكرا لإسرائيل، وأدع الأتراك يقطعون علينا المي؟”.

ولوح بأن “الإطار سيأتي برئيس وزراء قويّ يكون نداً للكرد في ملف النفط والغاز، وكذلك الأميركان”.

فسارع الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى الرد على تصريحات الموسوي، فكتب مسؤول الملف العراقي في مقر بارزاني تدوينةً جاء فيها “كيف يمكن أن نتحالف مع هذه العقلية؟”.

يعني أن مقتدى ورَّط حليفه بارزاني، وفتح عليه أبواب نقمة الإطاريين والإيرانيين، كما أحبط العراقيين بوعوده التي لم تتحقق، وأضاع عليهم ثمانية أشهر من أعمارهم في الثرثرة الفارغة، والمعارك الفاشلة، والزيارات والتغريدات البائسة.

يقول “لست ممن يتنصل من المسؤولية، إلاّ أن ما يحدث في العراق هو ضمن مخطط شيطاني دولي لإذلال الشعب وتركيعه وإحراقه، خوفاً من وصول عشاق الإصلاح الذين سيزيلون الفساد”، “فليأخذوا كل المناصب والكراسي، ويتركوا لنا الوطن”.

إذن فقد نجح خصومه الأشقياء فجعلوه يختار، مجبرا، أن يتقاعد، ويغادر الملعب، وهو جريح.