حين بدأت روسيا حربها على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي بقصف كثيف على العاصمة كييف تساءل كثيرون: كم ستستمر هذه الحرب التي وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها «عملية عسكرية خاصة»؟
بعد أيام من هذه البداية الدراماتيكية حذر مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بيل بيرنز من أن بوتين يراهن كثيراً على المرحلة الثانية من حربه أو (عمليته العسكرية الخاصة)، حيث يعتقد أن مضاعفة الصراع العسكري أفضل طريق للمضي قدماً. وقال بيرنز إن هذه القناعة لدى بوتين جعلت التصعيد الصاروخي والمدفعي أكثر خطورة من المرحلة الأولى، ولذلك تضاعفت الهجرة المدنية من سكان العاصمة كييف والمدن المحيطة بها.
العودة إلى الأيام الأولى للحرب الأوكرانية وصدور تهديدات علنية من بوتين وأركان جيشه، أكدت أنه لا ينبغي التقليل من خطر تصاعد الحرب إلى صراع نووي رغم أن «المجتمع الاستخباري العالمي» لا يرى دليلاً عملياً في هذه المرحلة على تخطيط روسي لاستخدام «أسلحة نووية تكتيكية» أقل شمولاً وتأثيراً من قنابل ذرية قد تتطور إلى حرب عالمية ثالثة فوراً تحرق الأخضر واليابس.
لم يتراجع مدير المخابرات الأميركية بيل بيرنز عن هذه التوقعات والاستنتاجات، مع سياسة الكر والفر بين روسيا وأوكرانيا وضغط العقوبات الأميركية والأوروبية على الاقتصاد الروسي المحاصر من الطاقة إلى الذهب. ولم يتردد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» في الإعلان عن تقديم أسلحة بمليارات الدولارات لأوكرانيا ومعلومات استخبارية عن أنظمة الصواريخ والمدفعية يقرر الأوكرانيون كيفية استخدامها ومتى والأهداف التي يجب ضربها.
وقالت محطة (سي إن إن) إن «الأمر عندما يتعلق بالقوة العسكرية التقليدية للجانبين الروسي والأميركي فإن الولايات المتحدة تضع موسكو في حرج غير مناسب».
لم يبتعد كثيراً رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي عن الحقيقة حين قال، وهو العسكري المحترف إن «العالم أصبح أكثر اضطراباً، وإن احتمالات نشوب صراع دولي كبير بين القوى العظمى، وكلها دول نووية، آخذة في الازدياد». ورد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مستشهداً بنكتة عربية ساخرة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تقول: «إذا لم تستطع النوم بسبب الصراع الروسي – الأوكراني، فعليك أن تتخيل أن ما يحصل هو في أفريقيا أو الشرق الأوسط؛ تخيل أن أوكرانيا هي فلسطين وتخيل أيضاً أن روسيا هي الولايات المتحدة الأميركية... وعندها ستنام»!
وفي سلسلة العقوبات الاقتصادية على روسيا، فرضت الولايات المتحدة حظراً على الذهب الروسي المستورد، وانضم إلى هذا القرار المملكة المتحدة وكندا واليابان. وكانت صادرات الذهب الروسي حوالي 15 مليار يورو في العام الماضي 2021، ويعتبر هذا المعدن الثمين ثاني منتج تصدره روسيا بعد الطاقة. وسارعت موسكو إلى زيادة صادراتها الذهبية إلى الصين والشرق الأوسط. وتنتج روسيا سنوياً نحو 340 طناً من الذهب بلغت قيمتها في العام الحالي 20 مليار دولار.
لا يمكن أن نتحدث عن حظر غربي على الذهب الروسي من دون أن نتذكر الفيلم الأميركي الكوميدي الساخر «حُمى الذهب» (عام 1925) من إنتاج وإخراج وبطولة وموسيقى وسيناريو وتركيب شارلي شابلن. قال شارلي إنه أراد بهذا الفيلم أن يتذكره الناس في كل العصور، وها نحن نفعل. والقصة عن ثلاثة صعاليك يتفقون على البحث عن المعدن النفيس، ويلعب الطمع لعبته بين شريكي شارلي، فينفرد شارلي بالذهب.
وفي المعلومات المتوفرة أن مقاطعة ماغادان الروسية غنية بمناجم الذهب، خاصة أن الحرارة تنخفض في شتاء هذه المقاطعة شبه القطبية إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر. وهي غنية بالإضافة إلى الذهب بالفضة والقصدير. وتم تأسيس المقاطعة في عهد الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين في القرن التاسع عشر، وكانت إحدى مقاطعات العمل بالسخرة في المعسكرات النائية دائمة التجمد.
كان الذهب دائماً منذ بدء عصور الترف والزينة لدى الفراعنة والبابليين والسومريين والأكديين والآشوريين مقياس الثراء والجاه، وكان ملوك تلك العصور يتبادلون هدايا الذهب في الأعراس أو فدية لإطلاق سراح الأسرى بعد الحروب.
وللذهب مجلس عالمي عبر منظمة دولية متخصصة تأسست في لندن في عام 1987، ويهتم المجلس بتعدين الذهب الرنان واستثماره وتسويقه ودعم أسعاره، ويضم المجلس الشركات الرئيسية العاملة في هذا المجال، لكن نشاطه ليس مماثلاً لمنظمة «أوبك» النفطية التي تضم دولاً وليس شركات. وقرأنا في الصحف المصرية أن إحدى شركات القطاع الخاص المصرية بالاتفاق مع شركة بريطانية استثمرت خمسة ملايين دولار لاستكشاف الذهب خلال العام الحالي والعام المقبل في 11 قطاعاً في الصحراء الشرقية المصرية، من خلال جولتي مزايدة طرحتها وزارة البترول المصرية في العام الماضي. ولدى مصر مناجم ذهب قديمة تعود لعصر الفراعنة.
وتحتل روسيا المركز الثاني بين الدول المنتجة للذهب. أما المركز الأول فتحتله الصين، والمركز الثالث أستراليا ثم الولايات المتحدة في المركز الرابع تليها كندا وغانا والبرازيل وأوزبكستان والمكسيك وإندونيسيا. وتتقدم المملكة العربية السعودية الدول العربية في مخزون الذهب، تليها لبنان والجزائر وليبيا والعراق ومصر والكويت وقطر والإمارات والأردن وسوريا والمغرب وتونس والبحرين واليمن وموريتانيا وسلطنة عمان وجزر القمر. لكن إنتاج الدول العربية لا يدخل في المنافسة الدولية لهذا المعدن الثمين، ما يدفعها لشراء الذهب لتقييم عملاتها المحلية في البنوك المركزية.
نعود إلى حظر الذهب الروسي. هل تنجح السياسة الغربية في هذا الحظر لتضييق الخناق على موسكو؟ يرد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: «هذا الإجراء سيضرب بشكل مباشر أثرياء السلطة الروس، ويستهدف قلب آلة بوتين الحربية». وأضاف جونسون «يجب أن نجفف منابع تمويل نظام بوتين». لكن خبراء الاقتصاد يشككون في جدوى هذا الحظر مثلما حدث مع النفط والغاز والبنزين والديزل، فحظْر الذهب ليس عقاباً ملموساً ومؤثراً بشكل موجع كالأغذية - مثلاً - أو حتى الطاقة. لكنه يضيف أعباء على الاقتصاد الروسي مثلما يفعل مع الاقتصاد الأوروبي أيضاً. وفي حالة حظر الذهب الروسي ترتفع أسعار الذهب في العالم كذلك. إنها كرة ثلج تكتسح ما أمامها ما دامت الحرب مستمرة إلى نهاية العام الحالي كما يتمنى الرئيس الأوكراني زيلينسكي. ما الذي سيتم حظْره أيضاً وله تأثير أكبر من الذهب؟ ربما المشروبات الروحية!
نقل موقع «سكاي نيوز» الإخباري عن مسعود معلوف الدبلوماسي اللبناني السابق والخبير في الشؤون الأميركية قوله إن «العقوبات بصورة عامة أثبتت أنها لا تأتي بالنتائج التي تتوقعها وترجوها الدول التي فرضتها، كما حدث مع فنزويلا في عهد الرئيس الراحل هوغو تشافيز أو العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، وكما يحدث الآن مع روسيا». الطريق طويل – كما يبدو – قبل انطلاق صفارة الحكم معلنة انتهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
قارن الفريق ضاحي خلفان، نائب رئيس شرطة دبي، بين الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا وحرب الولايات المتحدة على العراق، وقال: «ما معنى أن تكونوا بهذه الحدة ضد روسيا، لأنها في حرب مع أوكرانيا، ولم تكونوا كذلك عندما كانت أميركا في حرب ضد العراق؟».