استدعى القلق النووي تطوير فكرة وضع الخلافات مع إيران في "الثلاجة" لفترة زمنية موقتة كي يكون في الإمكان التوصّل الى اتفاق إحياء الاتفاقية النووية JCPOA بين طهران والدول الست: الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. إسرائيل حاضرة بقوة في المعادلة بسبب تلميحها مؤخراً أنها عازمة على توجيه ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية إذا ما وقّعت هذه الدول على صفقة ناتجة من مفاوضات فيينا تعتبر إسرائيل أنها تتنافى مع أمنها ومصلحتها القومية. الدول الأوروبية خائفة من الانزلاق نحو مواجهة إيرانية - إسرائيلية ومن انتهاء مفاوضات فيينا بالفشل بكل ما يترتب عليه هذا الإخفاق من تداعيات نووية ونفطية وحربية.
إدارة بايدن تقع تحت ضغوط إسرائيلية وأميركية تكبّل قدرتها على الانحناء أمام الإصرار الإيراني على شروط مثل شطب "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب أو تقديم ضمانات بأن الولايات المتحدة لن تمزّق مستقبلاً الاتفاقية النووية كما فعل الرئيس الأسبق دونالد ترامب. فهذه مسائل خارج قدرة وصلاحية إدارة بايدن، بعضها عائد قطعاً الى الكونغرس الأميركي. أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنها تقع بين عقائديّتها ومركزية "الحرس الثوري" في صلب اقتصادها وسياساتها الخارجية وسلوكها الإقليمي، وبين حاجتها الفعلية الى بيع نفطها بالذات في مرحلة الحاجة الأوروبية الى هذا النفط مع نهاية السنة عندما يتم تطبيق الحظر على استيراد أوروبا للنفط والغاز من روسيا. لهذه الأسباب، عادت فكرة البحث عن حلول انتقالية أو موقتة تيسِّر ما تم الاتفاق عليه حتى الآن وتضع الخلافات في الثلاجة لمعالجتها لاحقاً. ولكن، حتى في هذا الأسلوب ما زالت هناك عراقيل ومطبّات.
ما بات واضحاً هو أن الصفقة الكبرى النهائية، والتي تتطلّب في صلبها صفقة أميركية - إيرانية، أصبحت صعبة المنال بل شبه مستحيلة الآن. ولذلك تطفو المقترحات الخلاّقة للقفز على العراقيل للتوصل الى اتفاقية مرحلية أو حلول انتقالية.
في هذه الأثناء، تترك القيادة الإيرانية لنفسها مجال المناورة البنّاءة المرفقة بالتهديد بالانتقام وأخذ الثأر. من جهة، تُبدي الليونة الإقليمية من خلال حرصها على إبراز أهمية استمرار المباحثات الإيرانية - السعودية التي انتهت من جولتها السريّة الخامسة وهي جاهزة لجلسة علنية، كما تُسرِّب طهران. وثانياً، توحي إيران أنها مستعدّة لتسهيل عملية ترسيم الحدود اللبنانية - الإسرائيلية البحرية لإثبات حُسن النيّة من جهة ولإثبات ثقل الوزن الإيراني في مثل هذه المسائل المهمّة للولايات المتحدة وليس فقط لإسرائيل. هذا إقليمياً.
أما المرونة الاستراتيجية، فإنها تتمثّل في إمكان وضع تصنيف "الحرس الثوري" في سلّة التأجيل لأن رفع العقوبات الاقتصادية يفسح مجال بيع النفط ويرفع الضغوط الشعبية عن النظام. وبالتالي إن تنويم العقيدة السياسية موقتاً يخدم مصالح النظام وقدرته على البقاء عبر النهضة الاقتصادية. فمال النفط أمرٌ أساسي لتمتين العقيدة على المدى البعيد، ولا عيب في وضعه في مرتبة الأولوية موقتاً. فهذا يدخل في سياسة المناورة البنّاءة والحذِقة، حسب تقويم رجال النظام في طهران.
لكن الليونة والمرونة الإيرانيتين ليستا مفتوحتا الأفق بل إنهما مرتبطتان عضويّاً بمصير مفاوضات فيينا بعنوانها الرئيسي وهو: رفع العقوبات عن إيران. وأيضاً بردود الفعل الإسرائيلية على صفقة فيينا. وعليه، إن طهران تبعث برسائلها التهادنية والتصعيدية في آنٍ واحد وتتخذ الإجراءات.
إسرائيل تقلِق أوروبا وليس فقط إيران. تقلِق أيضاً روسيا التي وجدت نفسها أمام ورطة مع إسرائيل بعدما قرّرت موسكو أن مصلحتها تقتضي إيكال سوريا الى إيران وبعدما وجّهت رسائل إنذار ردّت عليها إسرائيل بأنها جاهزة لها. استدركت موسكو سريعاً بعدما أبلغتها إسرائيل أن هناك "عواقب سياسية جدّيّة" لسياساتها نحوها تمتد من سوريا الى أوكرانيا مروراً بروسيا نفسها بعدما اتخذت موسكو إجراءات ضد "الوكالة اليهودية".
هذا الأسبوع، توجَه وفد إسرائيلي الى العاصمة الروسية للمرة الأولى منذ بدء الأزمة بين البلدين على خلفية القرار الروسي بحظر "الوكالة اليهودية" التي تسهّل الهجرة الى إسرائيل. إسرائيل اعتبرت إغلاق فرع الوكالة في روسيا أمراً "خطيراً ستكون له تداعيات على العلاقة الثنائية". رافق ذلك تسريب مسؤولين إسرائيليين قائمة من الردود المحتملة، فيما كشف وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس عن تأزم الوضع العسكري بين روسيا وإسرائيل بعدما تم إطلاق بطاريات دفاعية روسية نيرانها على طائرات إسرائيلية أثناء قصف لها على مواقع في سوريا في شهر أيار (مايو) الماضي.
لكن ما بعثته إسرائيل الى روسيا وأوروبا والولايات المتحدة عبر القنوات غير الرسمية يدخل في الخانة الأهم، أي الخانة النووية، وهو أنها جاهزة لتوجيه ضربات عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية إذا ما وقّعت هذه الدول على اتفاقية فيينا. هذا جديد لأن التهديد مرتبط بالتوقيع.
أوروبا في رعب نووي ونفطي نتيجة رفع إسرائيل للسقف وإيضاحها أن التوقيع على الاتفاقية سيؤدي الى خطوات مباشرة ضد إيران، برضا أميركا أو بمعارضتها. أبلغت إسرائيل الدول الأوروبية موقفها أن تحرير إيران من العقوبات بموجب اتفاقية فيينا سيمكّن إيران من اقتناء السلاح النووي- وهذا مرفوض كليّاً لديها. لمّحت إلى أنها لا تثق، لا بإدارة بايدن ولا بالوعود الأوروبية بألاّ يُسمَح لإيران بامتلاك السلاح النووي.
الرعب النووي بالغ الأهمية لأوروبا من ناحيتين: فشل المفاوضات النووية بما يؤدّي الى تكثيف واستفحال البرنامج النووي الإيراني. وردود الفعل الإسرائيلية التي ستحوّل ما يسمى بـ"حروب الظل" بين إيران وإسرائيل الى حروب تقليدية ومباشرة. ثم هناك الاعتبارات النفطية المصيرية لأوروبا بعدما اتخذت قرار حظر النفط والغاز الروسي وباتت في حاجة الى بديل تعتبره وارداً جدّاً إذا ما تم توقيع الاتفاقية النووية مع إيران.
لكل هذه الأسباب، تحرّك الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، لدى إيران بحثاً عن مخرج لانتشال مفاوضات فيينا من الفشل من خلال ترتيبات انتقالية أو موقتة تجمّد الخلافات في سلّة لاحقة وتطلق ما تم الاتفاق عليه بما هو لفائدة إيران وأوروبا وكذلك الولايات المتحدة.
المهم لبوريل، نيابة عن الاتحاد الأوروبي والى حد ما نيابة عن الإدارة الأميركية، هو إيجاد الحل الوسط. إيران لم تصدّ الباب لأنها في حاجة للمال وربما أيضاً لأنها تنظر بجدّيّة الى العزم الإسرائيلي على اتخاذ إجراءات عسكرية مباشرة ضدها. فهي تدرك أن كلفة الحرب عالية بالرغم من قيامها هي أيضاً برفع سقف التحدّي والجاهزية العسكرية ضد إسرائيل.
تدرك طهران أن روسيا غير قادرة على دخول الحرب بجانبها ضد إسرائيل، بل غير مستعدّة. تدرك أنه في حال تطوّرت الأوضاع الى مواجهة عسكرية إيرانية - إسرائيلية، لن تتمكن إدارة بايدن من الاستمرار بالمفاوضات معها. تعي أن في حال المواجهة مع إسرائيل، ستضطر الولايات المتحدة الى الانجرار الى جانب إسرائيل لأنها حليفة استراتيجية ولأنها مسألة داخلية أميركية.
الإبحار بين المناورة البنّاءة وبين المواجهة الفظّة ليس سهلاً لا سيّما وسط الأمواج الإسرائيلية التي تزداد صخباً برغم أنف المساعي الأميركية والأوروبية الحائرة في بحر الشرق الأوسط والخليج.
- آخر تحديث :
التعليقات