في معاجم اللغة العربية، الأرض القاحلة هي الأرض التي يبست وأجدبت ولا نبات فيها ولكن هناك قصة في تاريخ دولتنا الحديث تحمل نقيض هذا التعريف، قصة جعلت المستحيل ممكناً، لم تكن مجرد إنجاز ومشروع ناجح، بل كانت معجزة حقيقة.

نحن الآن في سنة 1967 وبدأ الأمر بمكالمة هاتفية من أبوظبي إلى جامعة أريزونا في الولايات المتحدة، ليتم دعوة مدير دائرة الأبحاث في الجامعة لزيارة أبوظبي، أما سبب الدعوة فهو دراسة إمكانية الزراعة في بيوت بلاستيكية ذات بيئة مراقبة في الصحراء الساحلية القاحلة في جزيرة السعديات وباستخدام كميات قليلة من من مياه البحر المحلاة، فندرة الأمطار والعواصف الرملية ورياح البحر المثقلة بالملح التي تهب على السعديات جعلت من المستحيل الزراعة في الهواء الطلق على طول سواحلها الصحراوية.

لم تمض عدة أشهر حتى قامت جامعة اريزونا بتأسيس "مركز الأبحاث للأراضي القاحلة" في السعديات بمنحة من الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، بلغت المنحة 3.6 مليون دولار، وحوّلت وزارة المالية في أبوظبي نصف المبلغ مباشرة إلى جامعة اريزونا واودع الباقي في حساب مصرفي في أبوظبي لسد نفقات أول منشأة للطاقة والماء والغذاء في ابوظبي.

تفاصيل هذا المشروع وثّقه الكتاب الصادر عن الأرشيف والمكتبة الوطنية في دولة الإمارات العربية المتحدة بعنوان "زايد ومعجزة السعديات"، يتناول الكتاب جهود الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في الزراعة واستصلاح الأراضي المالحة في جزيرة السعديات عندما كان حاكماً لأبوظبي، وجاء العلماء من جامعة أريزونا للبدء في الزراعة وإنتاج الخضروات الطازجة، واستخدام التقنيات الحديثة في الريَّ، وفي توليد الطاقة الكهربائية، وتحلية مياه البحر.

يذكر الكتاب أن مشروع السعديات من أقدم المشاريع الأمريكية في أبوظبي، وربما أولها، وكانت أبوظبي جزءاً من الإمارات المتصالحة، ولم تكن هناك سفارة أمريكية في أبوظبي، أما جزيرة السعديات فتغطيها الرمال الكلسية البيضاء، وهي تفتقر إلى الماء والطرق والبنى التحتية ولم يكن يسكنها سوى عائلات صيادي السمك الذين يعيشون في أكواخ من سعف النخيل.

مؤلف الكتاب هو الدكتور ميرل جنسن وهو من العلماء البارزين في أمريكا في مجال الزراعة في البيئة المراقبة، وكرس الكتور جنسن حياته المهنية لتصميم وتنفيذ أنظمة إنتاج الغذاء في جميع أنحاء العالم، وعمل في فترة 1968-1974 كقائد لفريق البستنة في مركز الأبحاث للأراضي القاحلة في أبوظبي.

يقول الكاتب "كان أفراد القرية في السعديات يشركوننا في أعيادهم ومناسباتهم الدينية"، وكان الشيخ زايد قد اختار ثلاثة من أهالي السعديات للعمل في مركز الأبحاث، وتم تركيب ثلاثة محركات ديزل لتوليد الطاقة اللازمة لتشغيل كافة المعدات لتحلية المياة والري بطاقة إنتاج يومية بلغت 70,000 غالون من الماء المحلى.

لقي مشروع استصلاح أراضي السعديات اهتماماً عالمياً وكُتب عنه بلغات مختلفة في العديد من المجلات العلمية والكتب، وجذب المشروع العديد من الدبلوماسيين بل ورافق الكثير من رؤساء الدول الشيخ زايد في زياراته لجزيرة السعديات ليشهدوا نجاح هذه التجربة في بيئة من أقسى البيئات الصحراوية في العالم.

كما زار مشاهير العالم السعديات ومنهم بطل العالم للملاكمة محمد علي كلاي، كان ذلك في مارس (آذار) 1974 قبل عدة أشهر من استعادته لقبه بعد منازلته الأسطورية مع جورج فورمان في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية).

وتمضي خمسون عاماً على مكالمة أبوظبي إلى جامعة أريزونا، ففي سنة 2017 تم الإعلان عن معجزة أخرى في السعديات، ليست معجزة زراعية بل ثقافية، في ذلك العام افتتح متحف اللوفر أبوظبي بموجب اتفاق استثنائي موقّع بين حكومتي أبوظبي وفرنسا في 2007، وقام بتصميمه المهندس المعماري جان نوفيل، وشارك في الافتتاح رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون الذي قال في كلمة حفل الافتتاح "الجمال سيغير العالم، ومتحف اللوفر أبوظبي هو مشروع حضاري ضد كل أشكال الظلامية في العالم".

متحف اللوفر أبوظبي لا مثيل له في المنطقة، إذ يستعرض آلاف الأعوام من تاريخ الإنسانية بما في ذلك أدوات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وتحف فنية، ومخطوطات دينية، ولوحات أيقونية، وأعمال فنية معاصرة. وتستمد المجموعة الدائمة الأعمال الفنية من 13 مؤسسة فرنسية شريكة، ومن متاحف إقليمية ودولية أخرى، ويتولّى الإشراف على متحف اللوفر أبوظبي دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، وهي الجهة المعنية بتطوير وتعزيز صورة ابوظبي كوجهة عالمية للثقافة.

يبدو أننا لن ننتظر لسنوات طويلة، وسيأتي قريباً بإذن الله متحف زايد ومتحف غوغنهايم والبيت الإبراهيمي، فالسعديات هي أرض المعجزات.