منذ فترة ليست بالقصيرة رجعت إلى مكتبتي فوجدت أنني اقتنيت سلسلة روايات عنونتها الهيئة المصرية العامة للكتاب بسلسلة الجوائز. وقد كنت قد كنت قرأت على فترات متقطعة بعض الروايات التي حاز كتّابها على جائزة نوبل مثل روايتي الكاتب التركي "أورهان باوق" حياة جديدة والقلعة البيضاء. على أنني قرأت مؤخراً روايتين الأولى للكاتب اليهودي البولندي المولد "اسحاق سنجر" (جائزة نوبل 1978م) وعنونها "شوشا"، والثانية للكاتب البريطاني التريناندي المولد "ناييبول" (جائزة نوبل 2001م) وكانت تحمل عنوان "شارع ميجل". كلا الروايتين تتناولان فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، كما أن الرواية الأولى تنقل صور متناقضة للمجتمع اليهودي في وارسو وتركز بشكل أساسي على شارع "كروتشمالنا" في الحي اليهودي، بينما تركز رواية "نايبول" على شخصيات متعددة من أصول مختلفة يغلب عليها العرق الهندي في شارع "ميجل" في جزيرة ترينيداد في أمريكا اللاتينية.

يظهر الشارع في كثير من الروايات وكأنه صانع الحدث، فيما نحن المعماريين نرى الشارع على أنه "معرض العمارة الدائم" يراه الأدباء وكتاب الرواية على أنه "مسرح الأحداث الدائم". ثمة اتفاق على أن الرواية تبدأ من المكان الذي يشكل رابطة الأحداث والشخصيات، ويظهر أن ما نسميه، نحن المعماريين، ظاهرة الارتباط بالمكان Place Attachment يشكل مفصلاً أساسياً في خلق الحدث الدرامي الذي تصنعه المدينة بأشكال متعددة، لكن يغيب عنا، وأقصد المعماريين، أن كل رابطة مكانية تحتاج إلى الوقت والأحداث التي تصنع الذكريات.

كنت أبحث في كل رواية ما تراكم عندي من انطباعات سلبية حول مؤلفي الروايتين، فسنجر يهودي ابن حاخام ويكتب باليشيدية (لغة خاصة ببعض اليهود) بينما لـ"نايبول" تصريحات نارية ضد الإسلام، لكن لم أجد ما يثير حفيظتي فالأحداث كنت تصور المكان من خلال مواقف شخصيات كل رواية وتتجسد الصور البصرية، التي تغري المعماريين، من تقاطعات الشخصية ومواقفهم من تلك الصور. ومع ذلك لا تخلو رواية "شوشا" من حلم دولة اليهود في فلسطين في تلك الفترة، لكنه الكاتب يثير حوله العديد من التساؤلات، "فهل الرب الذي وعدنا بالأرض المقدسة أم أننا الذين اختلقنا هذا الوعد". الجدير بالذكر أن الروابط المكانية المتذبذبة والمتناقضة التي أظهرتها شخصيات الروايتين تشخص حالة من التفكير النقدي العمراني، ففي نفس اليوم الذي كتبت فيه المقال، التقيت بطالبة ماجستير أشرف على دراستها تتناول "الرابطة المكانية" وتطبق آلية اسمها Hook Model وتعني الكيفية التي تتشكل من خلالها جاذبية المكان. والمتفق عليه بين دارسي العمارة أن الجاذبية تتكون من جودة المكان من الناحية التصميمية والتنفيذية بينما الحال مختلف حتى النقيض في أحداث الروايتين، فالجاذبية في كلا الشارعين مصدرها الشخصيات والذكريات.

من الجدير بالذكر أن "الدرمكانية" تتشكل من وجود المرجع المكاني، أي المكان الذي تعاود الأحداث فيه الظهور وتتصاعد علاقات السكان وتتشابك وتظهر على شكل صور متداخلة لكن لكل منها مسارها الخاص. خلال الأعوام الأخيرة صرت أنصح طلاب الدراسات العليا المهتمين بالنقد العماري أن يقرؤوا روايات تصنع الدراماكنية حتى تكون رؤيتهم واضحة، فمن المعروف أن الكتابة المعمارية جافة وتركز على المادة والشكل والتقنية أكثر من الحدث وتصاعد العلاقات الإنسانية، وبالتالي يندر أن نرى المشاهد الإنسانية بصورة واقعية حتى في الدراسات التي تتناول أنسنة المدينة والعمارة. الرواية تقدم صورة مختلفة كلياً عن المكان المشاهد وتغوص عميقاً في خباياه وتحاول أن تقدم غير المنظور بصورة حية. الشارع بكل تفاصيله المادية المحببة وغير المحببة يتحول إلى مسرح إنساني مفتوح يجعلنا نشعر بالحفرة التي يحاول "سنجر" أن يتجاوزها عندما كان يزور "شوشا" في منزلها في شارع "كروتشمالنا" وتجعل من رصيف الشارع حلقة الحوار لرجال وشباب شارع "ميجل".

في مطلع التسعينات قرأت ثلاثية تركي الحمد "العدامة" و"الشميسي" و"الكراديب" وظلت عالقة في ذهني وأذكر أنني نشرت مقالاً في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة حول الرواية والمدينة في مجلة دارين التي تصدر عن النادي الأدبي في المنطقة الشرقية، وشاركني في كتابة المقال معماري شاب (دكتور الآن في جامعة القصيم) فهد العتيبي. ورغم أنني لم أكن مهتماً بالدرامكانية في ذلك الوقت وكان تفكري مكرساً لتفكيك عوامل "المصادفة" التي تصنعها الأمكنة في المدينة، إلا أنني أرى الآن أنها تقود إلى نفس الفكرة، فكل رواية تحمل في ثناياها مخزوناً ضخماً من المعاني الكامنة غير المنظورة التي تجعل من المدينة مسرحاً كبيراً ليس فقط للعمارة بل للشخصيات التي تنجذب للعمارة وتدور حوادث حياتهم حولها.