تتكون القوات البحرية الروسية التي احتفلت بعيدها في نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي من أربعة أساطيل استراتيجية عملياتية، هي: أسطول بحر الشمال، وأسطول المحيط الهادئ، وأسطول البلطيق، وأسطول البحر الأسود. وما يهمنا منها في هذا المقال أسطول البحر الأسود. ولا تكتفي أهداف القوات البحرية الروسية بردع الخصوم بالقوة أو التهديد باستخدامها، وخلق الظروف وضمان الأمن للملاحة الآمنة في البحار والمحيطات، والدفاع عن سيادة روسيا في مياهها وبحارها الداخلية وجرفها القاري، وإنما تضيف إلى ذلك ضمان الوجود البحري الروسي في المحيط العالمي، واستعراض قوتها العسكرية، وتأمين مشاركة سفنها في مناورات حفظ السلام التي تجريها دول أخرى تتفق مع المصالح الروسية. وللأسطول 16 قاعدة بحرية في المواني الروسية، وأضافت إليها قاعدتين جديدتين، هما قاعدة سيفاستوبول في أوكرانيا، وقاعدة طرطوس في سوريا.
لن أستمر في استعراض العضلات البحرية الروسية العادية أو النووية، فموسكو لا تخفيها ولا تعتبرها من أسرارها الدفينة، بدءاً من غواصاتها إلى زوارق الطوربيد والصواريخ والفرقاطات وسفن الإنزال، وحاملات مروحيات فرنسية. ونُكب الأسطول في أبريل (نيسان) الماضي بغرق الطراد الروسي الصاروخي «موسكفا» دُرة الأسطول الروسي في البحر الأسود، مقابل السواحل الأوكرانية، بعد قصفه بصاروخين «كروز» من قبل الجيش الأوكراني. لكن موسكو نفت أن تكون أوكرانيا قد هاجمت السفينة الطرادة. على أي حال عززت روسيا أساطيلها البحرية منذ بدء الحرب الأوكرانية؛ سواء في المدمرات أو الفرقاطات أو الغواصات أو خطط الانتشار.
منذ أن بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) من العام الحالي، دقت أجراس الأمن الإنذاري الغذائي في كل دول العالم. رفعت معظم صفحات الاقتصاد في الصحف العالمية شعارات عن «جوع العالم» بعد توقف الصادرات الغذائية الروسية والأوكرانية بسبب الحرب. وأصبح «الأمن الغذائي» فقرة رئيسية في اجتماعات مجالس الوزراء حول العالم، واتخذت الدول إجراءات للتقنين والتقشف والبحث عن البدائل من دول أخرى غير روسيا وأوكرانيا، وسط ارتفاع شديد في الأسعار، وأزمة خانقة في الدول الفقيرة. وفي قرار إنساني اتفقت روسيا وأوكرانيا تحت علم الأمم المتحدة وبوساطة تركية على إطلاق أساطيل بحرية لنقل الأغذية وإمدادات الحبوب والزيوت، تحت رقابة وتفتيش أكثر من دولة.
من الطبيعي ألا يصدق كثيرون هذا التطور الاقتصادي وسط نيران الحرب. وذهبت صحيفة «التايمز» البريطانية إلى القول: روسيا وأوكرانيا تسمحان بتصدير الحبوب، وقد تكون «خدعة روسية». لكن أساطيل الشحن أبحرت في اتجاهات مختلفة وحماية جوية للسفن.
وبالمقارنة بين القوات البحرية الروسية والبحرية الأوكرانية، فإن مجلة «فوربس» الأميركية الرصينة ترى أن روسيا «يمكنها إغراق الأسطول الأوكراني في قاع البحر الأسود خلال ساعة واحدة». والواقع أن الأسطول الروسي مؤهل لحروب دولية، بينما الأسطول الأوكراني تستطيع أن تقول عنه إنه «سياحي».
نفذت الاتفاق الدولي السفينة «رازوني» التي تحمل علم سيراليون، فغادرت ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود، وهي أول سفينة تحمل شحنات أغذية منذ بدء الحرب. وتبعتها ثلاث سفن غادرت أوكرانيا من ميناء تشورنومورسك في طريقها إلى تركيا وآيرلندا وإنجلترا. ثم السفينة «نافستان» التي ترفع علم أوديسا، محملة بـ33 ألف طن من الذرة. لحقتها سفينة «رزجين» بعلم مالطا إلى إنجلترا، وسفينة «بولارنت» التركية التي حملت ألف طن من الذرة، وسفينة «فولمان» التي ترفع علم بربادوس، علماً بأن حركة أسطول الحبوب تخضع لمراقبة موقع «رفينيتيف» لتتبع السفن المدنية، وتحديد مواقعها في المواني أو البحار، وهو واحد من عدة مواقع مراقبة وتتبع دولية، من بينها موقع «مارين ترافك»، و«فيسل فايندر»، لرصد تحركات أكثر من 200 ألف سفينة كل يوم، باستخدام شبكة كبيرة من أجهزة الإرسال والاستقبال في جميع أنحاء العالم، عن طريق الأقمار الصناعية.
وتعهد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأن مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى «ستراقب أسطول السفن المدنية، لضمان سلامة الاتفاق من دون تعريض سيادة أوكرانيا للخطر». وكالعادة قالت المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، إن بلادها «ستحاسب» روسيا إذا لم تلتزم بتنفيذ الاتفاق. المهم في كلامهما «أن الخطة ستكون موضع التنفيذ في البداية لمدة 120 يوماً قابلة للتجديد». وأوضح ترودو: «كون الطرفين في حالة حرب، فإن نجاحنا في التفاوض على اتفاق من هذا النوع أمر غير مسبوق». المسؤول الكندي والمسؤولة الأميركية افترضا أن الحرب الروسية ستستمر في الأقل 4 أشهر قابلة للتجديد. والخطير بالنسبة لأوكرانيا، والمطلوب بالنسبة لروسيا، هو أن تعترف كييف بالأمر الواقع، بعد أن تعود إلى تصدير منتجاتها الغذائية وعائداتها المالية فترتخي الأيادي عن الأسلحة. وهو هدف تسعى إليه روسيا لتثبيت الأمر الواقع الجديد على الخرائط والممرات والحدود وحلف «الناتو»، وحينها يمكن وقف القتال، وتضع الحرب أوزارها لتبدأ حسابات الربح والخسارة بعد عام أو عامين من القصف والتدمير وهجرة السكان المهددين بالموت. لقد ذاق الأوروبيون الآن ما ذاقه العرب والأفارقة والهنود والفيتناميون والكوريون والأستراليون، من ويلات الحروب والاستعباد والسخرة والمقابر الجماعية والجوع.
لقد خسرت أوكرانيا الكثير بسبب إصرارها قبل الحرب على الانتماء لحلف «الناتو». وخسرت روسيا أكثر من أوكرانيا في خلع «كمامة» السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية المزعومة والتعايش بين الشعوب. بل إن موسكو أطاحت تاريخ أدبائها وروائييها وفرقها الاستعراضية وسيمفونيات موسيقييها. أين «البولشوي» يا ترى؟ هل هذا هو «الحرب والسلام»؟ وأين «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف»، ورواية «بطل من هذا الزمان»؟
من حق الرئيس بوتين أن يتيه فرحاً لأن قراراته حتى اليوم تثبت أنه صاحب القرار الوحيد، أو كما قيل إن العالم بدأ يفهم أن بوتين «هو من يقرر من يأكل ومن يجوع». وشهد «ممر الحبوب» في البحر الأسود في الأسبوع الماضي أكثر أيامه ازدحاماً بالسفن الذاهبة والعائدة من دون أي حادث يذكر، وهو ما يعني استمرار التزام روسيا وأوكرانيا بالاتفاق المعلن تحت إشراف الأمم المتحدة وتركيا. وترافق حراك أسطول الحبوب مع «تهدئة محسوبة» لحراك أسطول الحروب. والجو العام يوحي، كما تروّج أنقرة، بأن روسيا وأوكرانيا في طريقهما إلى قمة برعاية تركيا والأمم المتحدة، إذا تم «تبريد» خطورة قصف محطة زابوريجيا النووية الأوكرانية، التي وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنها «محاولة انتحار». وقد أوضح بلا تردد إيغور كيريلوف رئيس قوات الحماية من الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية التابعة للقوات المسلحة الروسية، أنه «يكفي أن تنطلق ربع مكونات مفاعل نووي واحد فقط من محطة زابوريجيا، لتغطي إشعاعاته جزءاً كبيراً من القارة الأوروبية».
من يدري، ربما تُعقد أول قمة روسية- أوكرانية لإسدال ستار الحرب على متن سفينة محملة بالقمح والأرز والحبوب والذرة إلى العالم الجائع.
التعليقات