شغلت الفلسفة عرشين متلازمين: العقل والمعرفة، وعُرفت طويلاً ب«أم العلوم» و«رفيقة النور» المنبثق ولادةً من أرحام الشرق في الهند واليونان، وترجمات العرب، وفكر الإسلام، وصولاً نحو الفلسفات والأفكار الأوروبيّة الحديثة، ومناهجها العقلانية التي اجتاحت الجامعات. أساتذة الجامعات الفرنسية على تنوّع جنسيّاتهم مثلاً، يعرّفون جيّداً أحلام طلابهم، بألق مبيت الشمس، ويعنون به الشرق، ولطالما رددوها وتسكن أذني.

هل نزلت الفلسفة عن عرشها اليوم؟ ربما تفسح المجال العام للإعلام والاتصال الخيالي والذكاء الاصطناعي، لتحتلّ بتقنياتها السهلة عقل البشرية، فتذوي الجغرافيا بحدودها الصلبة بين الأوطان، وشعوب «الجوزة الأرضية». أسميتها حبّة من الجوز من دون إغفال عظمة الكون واكتشافه الذي هو بحاجة دائمة إلى الكشف الدائم. وهنا أكتب مفتوناً بقوّة تفتّح عقول الشابات والشباب العرب، وخصوصاً في الخليج، لأحمّل لهم التحيّة الفلسفية والأكاديمية في أبوظبي، باختتام ورشة المؤتمر الدولي الفلسفي الأول الذي أُقيم في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 والذي نظمه مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بعنوان «الأخلاق والفلسفة» في سياق سلسلة ندوات الجامعة في القدرات الفكرية والفلسفية.

كانت توصم الأفكار الفلسفية والعلمية الجريئة قديماً بالخيالية. يعدونها بأنّها نقد النقد أو ابنة الشعر الصعب التحقيق، مع أنّ معظم الأفكار العلمية التي قلبت المفاهيم الكونية، قد ولدت أساساً في أرحام العقول الطافحة بالشعر والخيال والطموحات المستحيلة التي لا مجال لتعدادها؛ بل سأشير إلى أهمّها لربّما أشارك العام القادم المفكّرين إن بقيت في الدنيا:

1- قال جدّ الفلسفة الأوّل سقراط (468-399 ق.م.): أرى بعض الأشياء وكأنها خيالات تلقنني بعض الأمور، لإرشاد البشرية. كانت النتيجة الحكم عليه بتناول نبتة «الشوكران»؛ أي البقدونس السام الذي تجرّع كأس عصيره بهدوء، ثمناً لنطقه بالحقيقة، وقد كانت لديه أفكاره الداعية إلى الحكام الذين يمتهنون التصرّف العادل والنزيه أثناء الحكم.

2- قال كوبرنيكوس (1473-1543) بكرويّة الأرض ودورانها على ذاتها وحول الشمس، منزلاً الأرض من عرشها مركزاً للكون، ما انعكس على مكانة الإنسان في هذا الكون، فصار كائناً كما باقي الكائنات الموجودة على كوكب صغير أو واحداً من بين مليارات المليارات من الكواكب، يحتل موقعاً لا أهمية له في هذا الكون المرئي: أعدمته الكنيسة.

3- غاليلو غاليله (1564-1642)، جادل سلطات الفاتيكان منبّهاً، في القرن ال15، إلى الهوة الفاصلة بين الدين والفلك، معلناً فكرته بمركزية الكون، ودوران الأرض حول الشمس. أجبرته محاكم التفتيش بالتراجع عن فكرته، لأنه على «ضلال»، لكنّه أطلق عبارته الشهيرة في عمله القيّم «حوار» قائلاً بإصرار: ولكنها تدور. وأضاف: يعلمنا الفاتيكان كيف نتّجه نحو السماء، لكنه لم يشرح لنا كيف هي السماء وما حقيقتها. ولطالما نصح الأعيان بعدم تفسير نصوص العهدين القديم والجديد على هواهم، ووفقاً لمصالحهم وسلطاتهم الأرضية.

4- نشر إسحق نيوتن (1642-1727) نظريته في تحليل النور وفي الجاذبية العامّة أو الثقالة الكوني سنة 1687 بسبب ألم أحدثته تفاحة وقعت فوق رأسه وهو تحت الشجرة، فاتّهمته الكنيسة، على الرغم من تدينه الظاهر، بمروّج الفكر الإلحادي في حين أن نظريته الفلسفية العلمية شرحت ببساطة آلية حركة الأرض وباقي الأجرام السماوية وفقاً لقانون الجاذبية.

5- طرح ألبرت آنشتاين ( 1879-1955) فكرة تداخل الزمان والمكان وارتباطهما عضوياً وتحول أحدهما للآخر، وهذا ما قاد العلم إلى فكرة الانفجار العظيم التي اعتبرت عتبة العلم للكون المحسوس والمرئي. حتّى اليوم لا يزال العقل يبحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الانفجار العظيم.

6- العالم اليوم محكوم بنظرية الكم، وبفضلها تحققت تقنيّات الاتصالات والتقنيّات الرقمية و«الساتلايت» التي جعلته منبسطاً عمليّاً لا كروياً وفقاً لتوصيف توماس فريدمان في كتابه «العالم مسطّح، تاريخ موجز للقرن الواحد والعشرين» (2005)، عندما وصل إلى الهند من الشرق بينما وصلها كريستوف كولمبوس من الغرب عابراً الأطلسي في ال1492 في دورة نحو الجنوب والشرق حول إفريقيا، مفترضاً بالأرض مستديرة، بينما كان عثور كولومبوس لهذه الطريق المختصرة بحرياً، لأنّ الطرق البريّة إلى الشرق كانت مسدودة. لربّما أخطأ كولومبوس في حساب المسافة، ولم يكن يتوقّع عبوره كتلاً ضخمة من اليابسة قبل توهّمه الوصول إلى الهند، فسمّى الشعوب التي رآها في عالم أمريكا الجديد المكتشف هنوداً، لكنّه قفل جازماً بكرويّة الأرض على الرغم من أنّه لم يصّل إلى الهند. غداً قد نصل إلى أمريكا معاً بالسيّارة.

تُذيّل هذه الأمثلة المختصرة توقيع القيم الجامعة للأخلاق بالفلسفة. فالإشكاليات الفلسفية تمسك بيد الأخلاق، والاستئناس بالفلسفات الغربية والإسلامية هو تأكيد لعدم الإبداع من صفر معرفة، ولا مستقبل خارج الشباب المبدع بالفلسفة والعمل والتواصل بالعقول التي تُدير مستقبل العالم.