القراء الأعزاء،
يُعد حق الانسان في التعليم، هو الطريق المباشر في اتجاه التنوير وكسب المعارف ونمو مستوى الوعي والنهوض بالنفس اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ويرتبط ارتباطاً وثيقا بالعديد من حقوق الانسان الأخرى وحرياته الأساسية مثل حقه في تكوين الأسرة، العمل، حقه في مستوى معيشي كافٍ وحريته في التنقل وغيرها.
ومن المعلوم أن كل حق من الحقوق تلازمه حريّة ممارسة هذا الحق، لذا فإن الحق في التعليم في المراحل الأساسية والتأسيسية يكون مرتبطاً بحريّة الآباء في تعليم أبنائهم وفقاً لقناعاتهم ومعتقداتهم الخاصة طوال فترة ولايتهم أو وصايتهم عليهم، حتى يصبح الفرد بالغاً عاقلاً راشداً تنتقل هذه الحرية إليه، كما تشمل حرية الآباء أو الأوصياء في اختيار مدارس أخرى غير المدارس الحكومية العامة لتعليم أبنائهم.
ومن المؤكد أن التعليم عصب أساسي يتماهى مع حقوق الانسان الثقافية والتي تُعد أكثر الحقوق تشعباً وعمقاً وتعقيداً نظراً لتعدد مفاهيم الثقافة وارتباطها بشكل وثيق بكل تفاصيل الانسان كمخلوق استثنائي على هذه الأرض، فهي قد تعني «الإلمام بالفنون والانسانيات والعلوم والتكنلوجيا وبكل ما هو جديد على جميع الأصعدة المرتبطة بالإنسان»، وقد تنصرف أيضاً إلى سلوك الإنسان في التفكير والكلام واللغة والفعل والمهارات والإنتاج الذهني واليدوي بشكل عام، وتشمل أيضاً قدرة الانسان على التعلم والتأقلم ونقل وتوريث المعرفة للأجيال اللاحقة والتي تنضوي تحت منظومة المعتقدات والعادات والتقاليد والموروث الشعبي المتوارث من نتاج الشعوب الثقافي الشعبي المادي وغير المادي من ثقافة المأكل والملبس والرقصات والأهازيج والقصص والأساطير والنتاج الفكري المتعلق بالبحث العلمي وغيرها.
ولا شك بأن مملكة البحرين تولي اهتماماً كبيراً للحقوق الثقافية على جميع الأصعدة ومن جميع المستويات وتشهد على ذلك مواقف صاحب الجلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة الداعمة للثقافة والمشهودة للجميع، والتي أستطيع أن أقول إنني شخصياً قد لمستها في احتفاء جلالته بالفن والأدب حين استقبلنا بشخصه كمنظمين لملتقى الأديبات العربيات، وأخرى بالموروث الشعبي غير المادي بمناسبة فوز مملكة البحرين برئاسة المنظمة الدولية للفن الشعبي.
وعودةّ للغة والتي تعتبر عنصراً هاماً من عناصر الحقوق الثقافية، وتُشكّل هويّة الانسان الحقيقية التي يجب ألا يغفل أو يتغافل عنها، وإذ تعتبر لغتنا العربية من أهم اللغات العالمية الحيّة وأكثرها جمالاً وسهولة وإحصاناً، فهي لغة القرآن ولغة الشعر التي خلّدتها المعلقات الشعرية والشعراء العظماء، كما تعتبر اللغة العربية بالنسبة لمملكة البحرين هي لغة الدولة الرسمية وفقاً لنص المادة الثانية من دستورها.
وهنا تتقاطع عندي أهمية اللغة العربية وحرية الآباء في تعليم أبنائهم وبخاصة لدى من قدّموا لغات أجنبية على اللغة العربية في مراحل تعليم أبنائهم فأضاعوا هذه اللغة وفوّتوا عليهم التمتع بجمال لغتهم الأم، وهو أمر يتوجب استدراكه بضرورة العودة إلى اللغة العربية باعتبارها الأصل مع الاستزادة من العلم بتعلّم لغات أجنبية أخرى وكلما ازدادت المعرفة زاد أفق وثقافة الأبناء مع ضرورة (وأكرر ضرورة) الحفاظ على الأصل، أوَ ليس النبي (ص) يقول (من تعلّم لغة قوم، أمن مكرهم)!
والحديث عن الثقافة واللغة باعتبارها أحد روافدها، حرّضني عليه سعة أفق وشغف امرأة بحرينية فاضلة كرّست نفسها ووقتها وجهودها نحو الارتقاء بالثقافة وحملت رسالة التنوير أينما كان موقعها وفي أي منصب كانت، تلك المرأة هي معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، التي احتفلت الأسبوع الماضي مع الأحبة والأصدقاء والمهتمين بمضي واحد وعشرين عاماً على تأسيس المركز واستذكرت نتاجه ومنجزاته طوال الأعوام الفائتة وتطلعاتها للأعوام القادمة في حضور بهيّ وأنيق لملم شمل الوطن العربي وجمع القاصي والداني تحت ظلّ نبضٍّ يُردد (كل عام والمحبة عنوان).
وهي التي كرّرت القول إن الثقافة بمفهومها الكبير هي رافعة التنمية المستدامة، وصدقت فإنها كذلك، على اعتبار المفهوم الشاسع للثقافة الذي سبق وصفه في بداية هذا المقال وباعتبار تغلغلها في كل تفاصيل الأمم، وأيضاً لأنها تعلم بأن اللغة هي أحد أهم أسس الثقافة، فقد قرنت احتفالات ذكرى التأسيس بالإعلان عن جائزة (لغتنا الأم) التي تنتصر للغة العربية بتسليط الأضواء عليها وعلى محبيها في أي نشاط مرتبط بها يرتقي باللغة ويسبر أغوارها ويسلك ما لم يزل بِكراً من طرقاتها ويخرج عن المألوف.
تحية تقدير لمعاليها ولكل من يعتزّ بهويته وبلغته ولكل من يعي أهمية ودور الثقافة في الارتقاء بالشعوب والأوطان.
التعليقات