هناك أكثر من سبب لأن يزور الزائر للبحرين مركز الشيخ إبراهيم الخليفة الثقافي في المحرق. فمن ناحية معمارية، يقع المركز في وسط المحرق القديمة التي تم تجديدها ببراعة، والسبب الآخر هو ذلك الزخم من البرامج الفنية والثقافية التي يقدمها المركز. وكنت في زيارة للمركز في ديسمبر 2021، عندما علمت أن الكاتب إيلان بابيه Ilan Pappé سيلقي محاضرة خلال ثلاثة أيام بعنوان: «الفلسطينيون المنسيون»، فأجلت عودتي إلى الكويت لأتمكن من الحضور، خصوصاً أنني قرأت كتابين لإيلان بابيه هما: «فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة» و«عشر خرافات عن إسرائيل». ويقول ايلان بابيه عن نفسه في كتابه «الفلسطينيون المنسيون» الذي نشره عام 2013 : «الفلسطينيون المنسيون هم مجموعة من الناس خونتهم الحركة الفلسطينية والقوى السياسية الإسرائيلية في الخمسينيات من القرن العشرين، ولهؤلاء الفلسطينيين قصة غريبة مدهشة تحكي عن إبحار شبه مستحيل في بحري الاستعمار والقومية الشوفينية والتدين المفرط... وقد قضيت القسم الأكبر من حياتي كراشد بينهم في وسط حيفا»، ويضيف بابيه: «نبذتني طائفتي إلى درجة أنني قررت العمل في الخارج، وذلك بسبب مراجعتي النقدية الفكرية والعلمية للمجتمع اليهودي. ولقد ارتبطت بالحياة العامة والسياسة داخل المجتمع الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي حتى انني لا أغالي إن قلت إن صلاتي الاجتماعية وحتى بدرجة أكبر ارتباطاتي الأيديولوجية هي غير مألوفة في أوساط المجتمع اليهودي، مع أنني لست الوحيد الذي يغرد خارج سربه، فأنا واحد من القلة النادرة من اليهود الذين يشعرون بألفة قوية تجاه الأقلية الفلسطينية في إسرائيل».

والحقيقة أن بعض هؤلاء الفلسطينيين المنسيين غير منسيين بل مشهورون، فمنهم الشاعر محمود درويش الذي ولد في قرية البروة شمال الجليل في عام 1941، وهُجِّرَ مع أهله إلى لبنان عام 1948 لكن عائلته تمكنت من العودة بعد الهدنة عام 1949 ضمن برنامج عاد من خلاله نحو 25 ألفاً من المهجرين الفلسطينيين. انضم درويش مبكرا إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وانتقل إلى القاهرة من موسكو عام 1971، حيث انضم إلى منظمة التحرير. وإضافة إلى درويش، هناك الكاتب صبري جريس الذي ولد في الجليل الغربي عام 1938، واشتهر بكتابه «العرب في إسرائيل» الذي نشره عام 1966 بالعبرية. واشتهر بعد أن غادر إسرائيل وانضم إلى مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت عام 1970، وفقد زوجته التي كانت تعمل معه بعد تفجير المركز عام 1983، وتمكن من العودة بعد اتفاق أوسلو 1993 إلى قريته فسوطة المحاذية للحدود اللبنانية.

والعالم العربي يعرف كثيرا عن الروائي والشاعر إميل حبيبي المولود في حيفا عام 1921، صاحب رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». ويروي بابيه عن حبيبي:

«إنه لدى عودته بعد توقف المعارك رأى بأم عينه أثاث بيته يلقى من شقته الواقعة في شارع عباس الكائن على كتف الجبل، وعندما سأل الساكنين الجدد عن سبب إلقائهم مقتنياته خارجا، فأجابوا صار منزلنا الآن، وبعد جهد جهيد تمكن من استئجار بيت في الشارع ذاته». لكن حبيبي لم يتحمل العيش في حيفا بعد فقدانه منزله، فانتقل للعيش في الناصرة.

وآخر المشهورين من المنسيين الدكتور عزمي بشارة - المولود في الناصرة عام 1956 - الذي أصبح عضوا في الكنيست بعد أن درس الفلسفة في ألمانيا، ثم خرج من إسرائيل ليستقر في النهاية في قطر. هؤلاء الفلسطينيون المنسيون كان عددهم يبلغ نحو 100 ألف عندما وُقع على الهدنة بين العرب والإسرائيليين. وكثير منهم هُجِّرَ من بيته وبلدته، كما حصل لإميل حبيبي الذي اضطر للانتقال من حيفا إلى الناصرة. وكما يذكر بابيه، فإن أهل الناصرة كانوا محظوظين. فكان القائد العسكري على وشك أن يطرد أهلها عندما أراد تأكيدا من بن غوريون، فأجابه الأخير: «لا تطردوا أهل الناصرة». وما زالت منطقة الجليل الأعلى والأدنى هي الأكثر كثافة بالسكان العرب، ويرى بابيه أنه يرجح أنه من أسباب نجاة أهل هذه المنطقة من التطهير العرقي كان بسبب مقاومتهم المتماسكة، وبسبب الإجهاد الذي حل بالجيش الإسرائيلي في نهاية الحرب، وما زال المشهد في هذه المناطق عربيا رغم الجهود التي بذلتها الحكومات الإسرائيلية لتهويدها، حيث يبلغ نحو %60 من سكانها من العرب.

ارتفع عدد سكان إسرائيل من العرب ليزيد على المليونين بعد أن كان مئة ألف، حيث يشكلون حوالي %21 من تعداد سكان إسرائيل. لكنهم يملكون أقل من %7 من الأراضي الإسرائيلية.

هؤلاء الذين خوَّنَهم الفلسطينيون والإسرائيليون في خمسينيات القرن الماضي أصبحوا يشكلون %46 من الطاقم الصحي في مستشفيات إسرائيل، ويبدو أن دراسة الطب والصيدلة أصحبت ملاذا للارتقاء الاقتصادي والوظيفي في المجتمع الإسرائيلي. فالمستشفيات لا يتطلب التوظيف فيها شرط أداء الخدمة العسكرية، والذي على أساسه يحرم العرب من التقدم للعمل في الكثير من المؤسسات العامة والخاصة. وفي السنوات الأخيرة، قابلت أكثر من عائلة فلسطينية من إسرائيل في أوروبا كانت تزور أبناءها حيث يدرسون الطب. وآخر مرة كان ذلك في وارسو، حيث تكاليف الدراسة معقولة. وقد أبدت العائلة سعادتها بمقابلتي، لمعرفتي بتاريخهم ونضالهم غير المعروف في الإعلام العربي. ومما أخبروني أنهم سعداء لتمكنهم من مقابلة العرب في دولة الإمارات.

هؤلاء المئة ألف في عام 1948، والذين تمكنوا من البقاء على أرض فلسطين التاريخية، والذين وصل عددهم إلى المليونين في الوقت الحاضر، هم شعب له تاريخه وتجربته الخاصة ونضاله الخاص. وعلى مدى سنوات، وجدوا أنفسهم منبوذين من اليهود والعرب، وكانوا تحت نظام الطوارئ الاسرائيلي العسكري الى عام 1966. ويشكل المسلمون نحو %82 منهم، والمسيحيون %9، والدروز %9، وهم بشكل عام لا طائفيين، وبالرغم من محاولة إسرائيل التفريق بينهم، فإن انتماءهم العربي بقي قويا. فحتى شعراؤهم وأدباؤهم كمحمود درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيبي، فإنهم يمثلون الطوائف جميعاً. وهم يتميزون بصلابة التوجه العلماني لآرائهم السياسية والاجتماعية. وعلينا أن نقدر نضالهم من أجل تأكيد مواطنتهم في إسرائيل بالرغم من العقبات التي وضعتها إسرائيل لسلبهم حق المواطنة. فكانت تفرض عليهم الإلمام باللغة العبرية، والذي لم يكن مفروضا على المهاجرين إلى إسرائيل من اليهود. وبعضهم عاد إلى فلسطين/‏ إسرائيل بعد أشهر من تهجيره عام 1948 مثل حنا نقارة الذي يذكر قصته بابيه. فبعد أن هُجِّرَ إلى لبنان، أخذ يحث الفلسطينيين على العودة، وعندما عاد جوا إلى حيفا من قبرص، قبض عليه وألقي في السجن لثلاثة أشهر، وأصر على حقه في المواطنة، والذي لم ينله إلا بعد سنوات.

هؤلاء الفلسطينيون يختلفون في تجاربهم النضالية والسياسية والاجتماعية عن فلسطينيي الضفة والمخيمات. ويختلفون عن فلسطينيي الكويت وبقية دول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا، لهم تجربتهم النضالية الخاصة بهم. وهم الأكثر خبرة بالتعامل مع يهود إسرائيل ثقافيا واقتصاديا وسياسيا. وأرى أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي الرافض لتطرف ايتمار بن غفير ونتانياهو سيتقرب منهم أكثر.

هؤلاء سيكونون مرجعا للحوار الثقافي والسياسي بين العرب واليهود. فمن خلالهم ومن اجادتهم للغة العبرية سيتعرف العرب على الثقافة والمجتمع اليهودي الاسرائيلي، ومن خلالهم سيطلع اليهود أكثر على الثقافة العربية. فليس هناك حل عسكري للصراع العربي - الإسرائيلي، انما سيتحول الى تنافس على التميز في الاقتصاد والثقافة والعلوم.