انحرف المنطاد، أو تم إرساله للتجسس، قذفت به الرياح أو مساوئ الصدف، أم تم توجيهه بإحداثيات وبرمجيات وخوارزميات جيش الدفاع الصيني، لايهم.. المهم أن المنطاد «المُسالم» تجاوز المسموح على حين غرة، أو ذهب للمجهول بغير رجعة، خرج ولم يعد، أو سافر عشرة آلاف ميل من دون هوادة ولا «استراحة قصيرة ونعود» ولا «فاصل ونواصل»، ولا شيء من هذا القبيل.

اخترق الأمن القومي الأمريكي، جاء من العدو الصيني اللدود، ومن أقصى أقاصي العالم المتمرد الجديد، هكذا بدت الصورة أمام العالم، والجيش الأمريكي يستعرض عضلاته قبل أيام لينقض على البالون الأعزل، الأمريكيون افترضوا السيناريو الأسوأ ورغم أنهم متأكدون أن الصين لا يمكنها الإقدام على مغامرة مبكرة جدًا من هذا النوع، استدرجوا البالون «المسكين» إلى مساحة ستة أميال من شواطئ ساوث كارولينا، بالتحديد عند جنوب الشط الغربي من المحيط الأطلسي، أرسلوا طائراتهم المزودة تقريبًا بكل شيء، لم يستمعوا إلى تبريرات الدولة الصينية، ولم يصدقوا أنه مجرد بالون منفوخ على الفاضي، وأنه انحرف عن مساره الطبيعي، بل إنه كان يُجري أبحاثًا عن الطقس وأحوال الأرصاد الجوية فوق القارة الصفراء.

تحسب الأمريكيون للأسوأ، رغم تأخرهم عن اكتشاف ذلك الشيء ناصع البياض الذي اقترب أكثر من اللازم متجاوزًا جميع الخطوط الحمراء للأمن القومي الأمريكي، فلا الرادارات الأمريكية الفائقة التقطته، ولا الأقمار الصناعية المدارية لمحته، ولا الترسانة النووية المزودة برد الفعل الأسرع في الكون اكتشفته.

مجرد بضعة شباب التقطوا صورًا بهواتفهم النقالة للبالون «الجميل» احتفاءً به، استقبلوه وكأنه ضيف سماوي يهل على البلاد والعباد، وأنه ليس قمرًا للتجسس أو آلة عسكرية للهجوم على الأخضر واليابس، أحسنوا النيات ورحبوا بالقادم المتبختر في فضاءات بدت وكأنها تواجه حالة طوارئ منعت على أثرها الطيران على مساحة 100 كيلومتر مربع من جميع اتجاهات كارولينا الجنوبية.

استدرجت القوات الأمريكية البالون، سحبته على حين غرة إلى المنطقة المنشودة، ولم تطلق عليه صواريخها الفتاكة، ولا قنابلها الهيدروجينية العملاقة، ولا أقمارها الصناعية المهولة، اكتفت فقط بإرسال طائرتين «فانتوم» ربما، وأطلقت على المنطاد عدة صواريخ «جو - جو» فتفجره في الهواء، ولم تستطع استدراجه لكي يهبط بسلام على أرض الله «الأمريكية الواسعة».

انتهى كل شيء قبل صبيحة الأحد الماضي، ولكن الأمريكيين ولا حتى الصينيين أبوا ان يغلقوا الملف، الصين تحتج على مهاجمة معمل الأبحاث المناخي «البريء»، والأمريكيون يجزمون بأنه منطاد للتجسس على المناطق المأهولة بالترسانة النووية الأمريكية بالقرب من ألاسكا، الصين «تحلف بأيمانات» جميع الأديان، والأمريكيون يُكذبون ويهددون ويتوعدون، الصينيون يستعدون لاستقبال وزير الخارجية الأمريكي بلينكن ربما «يتم التوضيح»، والأمريكيون يلغون الزيارة احتجاجًا عى تجسس المنطاد لحساب الصينيين.

الأجواء اشتعلت، وحالة الطوارئ بين البلدين ارتفعت إلى عنان السماء، والعالم يترقب حربًا باردة من نوع جديد بطلها منطاد في السماء، وجمهورها العريض الكرة الأرضية عن بكرة أبيها.

رغم ذلك لم تسكت حرب التصريحات والتصريحات المضادة، التهديدات والتهديدات المضادة، والتهدئة والتهدئة المضادة، حتى قفز على السطح من جديد ملف تايوان «الصينية»، أو تايوان «الأمريكية»، أو تايوان المقسومة على شطرين أحدها يرحب بالعودة إلى حضن الأم الصينية الكبرى، والآخر مخدوع بالديمقراطية والحرية الأمريكية، البعض مع حق العودة للأصل، والبعض الآخر مع حلم انفصال التوأمين السياميين ولو طال الزمن.

بالنتيجة سيقف العالم مترقبًا إما لرصاصة موجهة من هنا أو هناك، وإما منطادًا صينيًا تائهًا قد يذهب هذه المرة إلى ما لا تُحمد عقباه، أو حربًا تجارية مستعرة تمهيدًا لحروب أخرى أكثر شراسة وضراوة من التي تدور رحاها الآن بين الغرب كله، وروسيا بمفردها، بين الناتو وشلالاته وترسنته العسكرية وعقوباته الاقتصادية، وموسكو الصامدة بعسكرة نفطها، وتطوير هجماتها وتطويق المدن الأوكرانية الحساسة وتليين دفاعاتها.

المنطاد الصيني فتح كل الجروح، وتحول من مجرد منطاد يضل الطريق، إلى بالون اختبار لا يسر عدو ولا صديق.