الحوت الأزرق هو أضخم حيوان معروف للإنسان اليوم في العالم. ولكم أن تتخيلوا أن طوله قد يصل إلى طول بناية سكنية مكونة من عشرة طوابق، ووزن القلب الواحد يساوي وزن سيارة دفع رباعي واحدة ويمكن الشعور بنبض قلبه على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات، ولذلك هو أكبر الحيوانات التي عاشت على كوكب الأرض على الإطلاق. والمفترس الوحيد المعروف للحوت الأزرق هي أسماك القرش الكبيرة، كما أن الكثير من الحيتان الزرقاء تلقى حتفها نتيجة اصطدامها بالسفن، كما يعتبر الاحتباس الحراري أيضاً تهديداً لها.
وعلى عكس المتوقع يتألف طعام الحوت الأزرق من كائنات بحرية صغيرة، إذ يستهلك الحوت الواحد البالغ حوالي 4 أطنان من هذه الكائنات وهي قشريات (الكريليات) صغيرة تشبه الروبيان وتغذية الحوت الأزرق موسمية، حيث يتغذى على تلك القشريات في المناطق الغنية بها في القطب الشمالي قبل أن يهاجر إلى مناطق التزاوج في المياه الدافئة بالقرب من خط الاستواء، وهو يعتبر اليوم من بين الحيوانات الأكثر عرضةً لخطر الانقراض.
ويبقى السؤال: ما علاقة كل ذلك بالعلاقات الدولية والسياسية والدبلوماسية والحرب والسلام؟ العلاقة هي أن الحوت الأزرق على الرغم من حجمه الأسطوري قد لا يتجنب الاصطدام بالسفن والموت جراء ذلك، ولم يطوّر طوال ملايين السنين خطَ سير متنوع صيفاً وشتاءً، وحافظ على نفس نوع التغذية التي يتناولها، ولا توجد له حتى أسنان وفمه بمثابة مصيدة مائية كبيرة للقشريات الصغيرة وكان دائماً هدفاً للصيادين على مر العصور، وإن كانت القوانين اليوم مشدّدة للحفاظ عليه من الانقراض، إلّا أن قراصنة صيد الحيتان الزرقاء لا يزالون نشيطين.
والتجربة من حياة الحوت الأزرق أنه يمثّل دولة كبيرة لم تنوّع مصادرها واعتمادها ينصّب على مصادر محددة، ولم تتأقلم مع المتغيرات من حولها لتغير وجهتها أو الطريقة التي تتعامل بها مع البيئة من حولها، بينما الدول المتوسطة والجارة لها بنفوذ الحجم تعلم تماماً الروتين المعروف لديها عن ممارسات وتوجهات، والقدرة الاستيعابية لديها للسيطرة على بيئتها، بينما هناك عوامل ومدخلات تستجدّ، ولا يعتبر حجمها الكبير ميزة لها مقابل تلك المتغيرات الخارجة عن السيطرة، والتي تؤثر كذلك على الموارد التي يجب أن تتوفر لها لتبقى على قيد الحياة، والطريقة والزمان والمكان الذي تحصل فيه على تلك الموارد معروفة لدرجة جعلت موسم حصادها هو موسم للهجوم عليها من المفترسين الأقل حجماً منها، ولكن الأكثر شراسةً وقدرةً على المناورة في إيقاع الأضرار بها وتحييدها عن باقي الدول الكبرى التي تشاركها خط سيرها نحو البقاء.
ونظرية الحوت الأزرق تشير في المجمل إلى أن قوة الدولة لا ترتبط بالحجم بقدر ما ترتبط بالمرونة والرشاقة الحكومية والمجتمعية، والذي قد يبدو أنه يملك القدرات الأكبر ليس بالضرورة هو الأقوى أو أن قوته مستدامة.
وبالتالي يجب على الدول أن تتجنب فخ وقوعها في مصيدة أن تكون مميزاتها جزءاً من نقاط ضعفها، وأن تجعل نفسها مورداً متاحاً للآخرين المتربصين بها والذين لديهم القدرة على البقاء تحت كل الظروف وفق ما هو متوفر أمامها من فرص، وأن الرشاقة والمرونة والقدرة على المناورة قد تكون الميزة التي تتغلب على الحجم والمساحة، ولها أهداف واضحة وطرق فعّالة للحصول على ما ترغب به، على الرغم من أن الأمر قد يبدو للوهلة الأولى خطراً جسيماً وخطأ لا يغتفر وغير منطقي إذا ما تم قياس الوضع من معطيات ظاهرة وواضحة للعيان، وجهل تفاصيل ذلك الخطر وهل هو خطر أم فرصة سانحة ومخاطرة مدروسة؟ ولذلك فإن إدارة التغيير والخروج عن المألوف وتجربة الجديد، واكتشاف موارد وسبل وطرق جديدة للبقاء والازدهار أمور يجب أن تصنّف كأهم مصدر من مصادر قوة الدولة التي لا يجب أن يستهان بها.