تشير سيرة الموت الزلزالي الفاجع والدمار الكارثي الذي يداهم البشر في مآويهم وأماكن عملهم بين الحين والحين إلى أن تركيا تعد واحدة من أكثر دول العالم تسجيلا لمثل هذه الزلازل التي راح ضحيتها في الألفية الثانية فحسب عشرات الألوف من البشر، وخلفت أضرارًا مادية جسيمة. ولا تلبث تركيا تداوي جراحها من زلزال حتى يعصف بها على حين غرة زلزال آخر، وليس في الأمر من عجب جيولوجيا؛ إذ تقع تركيا في منطقة تنشط فيها الزلازل، ما يجعلها معرضة باستمرار لهزات تتفاوت قوة وضعفًا، وهو وضع يفترض أن يستعد به مهندسو المباني والجسور والطرقات في هذه المناطق لما به يخفف وقع هذه الظاهرة الطبيعية حتى لا تخلف عددًا هائلًا من الضحايا كما هو الحال في المأساة الأخيرة.

لقد صعق العالم في وقت مبكر من صباح السادس من الشهر الجاري وصحى على وقع زلزالين مدمرين من هذه الزلازل الكارثية وتبعتهما هزات ارتدادية كثيرة. لقد ضرب أحد هذين الزلزالين بعنف شديد بلغت قوته 7.8 على مقياس ريختر جنوب تركيا وكان تأثيره شديدا ليس على حيزه المكاني في الجنوب التركي فحسب وإنما وصل تأثيره المدمر إلى الشمال السوري ويحيل بيوته إلى ركام يضم تحته أشلاء ساكني هذه البيوت، وضرب ثانيًا بعد تسع ساعات منطقة تركية جنوبية أخرى؛ لتتسع بذلك رقعة تأثير الزلزالين اللذين حصدا حتى الآن أكثر من 46 ألف قتيلا وأكثر من 130 ألف جريح، والأعداد مرجحة للارتفاع كلما تقدمت عمليات إزالة الأنقاض.
لا شك أن الزلزال كان سببًا رئيسيًا في إحداث الدمار الذي أهال الحجر على البشر وفجر ما لدى الناس من مشاعر الحزن والألم تجاه المشاهد الدامية التي عرضتها وسائل الإعلام العالمية وصور الثكالى واليتامى يبكون موتاهم ويندبون حظهم، وأفضى إلى مسارعة الدول إلى إعلان تضامنها ووقوفها مع تركيا وسوريا في مصيبتهما الطبيعية. ولا أحد يملك اعتراضًا على قضاء الله وقدره، ولكن ينبغي الإشارة إلى أن قوة الزلزال ليست السبب الوحيد في سقوط هذا الكم من الضحايا البشرية والمادية، فهناك ثلاثة أسباب أخرى، أولها وقت حدوث الزلزال، فحدوثه فجرًا والناس نيام لم يغادروا بعد منازلهم قد ضاعف بلا شك عدد الضحايا، وثانيها ضعف المباني وعدم تطابق مواصفات بنائها لتتكيف مع منطقة الزلازل، وهو في اعتقادي السبب الأهم، ولعل خير شاهد على أهميته حملة الاعتقالات التي طالت عددا من المقاولين المتهمين بالتلاعب في مواصفات بنايات حديثة يُفترض أن تصمد أمام أعتى الزلازل فإذا بها تنهار وتمحي بل وتذوب كقطعة سكر في كوب ماء، وثالثها حدوث الزلزال في وقت اشتد فيه قر الشتاء، وهو عامل كان سببًا في إبطاء عمليات الإنقاذ، وأسهم في تردي الأوضاع الصحية للعالقين تحت الأنقاض، ولعله سبب في هلاك بعضهم. المأساة إذن، طبيعية زادها إهمال الإنسان في التصدي لها سوءا على سوء.
أنفاس الناس محبوسة وأسماعها مشدودة وعيونها مسمرة على المشاهد والصور التي تنشرها الميديا للأطفال الأبرياء وكبار السن الذين يتم انتشالهم من تحت ركام المباني لا يفصلهم عن الموت إلا دقائق وسويعات. وإنها لمفارقة عجيبة أن يتحول حطام المباني الهائل الذي خلفه الزلزال المدمر في ساعاته وأيامه الأولى إلى منجم تتسابق إليه فرق الإنقاذ والأهالي الذين كتب لهم القدر النجاة من موت محقق، لانتشال أرواح من قُدِر لهم أن يقاوموا الموت وتخليصهم من براثنه لتكتب لهم حياة جديدة. قُدِر للبعض أن يُنقذ والبعض ضاعت فرصته بضياع الوقت اللازم لإنقاذه من تحت الكم الهائل من الأنقاض.
ووسط رائحة الموت التي ضجت بها منطقة الزلزال في سوريا، التي لا تدري لمن يشكو المواطنون فيها حالهم حقا، أي حال هو أرحم للذين تم انتشالهم من تحت الركام، أهو الموت تحت الأحمال الثقيلة من الحديد والطابوق والإسمنت وكل محتويات المنازل مع أحبائهم؟ أم الخروج لمواجة قدر مبهم ومواصلة الشقاء بالعيش على المتناقضات السياسية، التي جعلت سوريا بلادًا مفتتًا لا قيمة للإنسان فيه تصول فيه عوامل الدمار والهلاك والموت وتجول؟!
رحم الله من قضى تحت الأنقاض، وكان الله في عون من أصبح بلا مأوى ولا ملبس ولا عمل. هؤلاء هم الذين ينبغي أن نركز الأنظار عليهم وتُوفَّر احتياجاتهم بأسرع وقت. فإذا كان للأتراك حكومة مسؤولة ستقوم بواجبها تجاه مواطنيها، فإننا كعرب ينبغي أن نشمل السوريين بجزيل عطايانا ومساعداتنا النابعة من أخوة صادقة؛ لأنهم لا نصير لهم ولا ظهير إلا نحن أبناء جلدتهم، خاصة بعد أن عاينا حجم البؤس الذي ضاعف مأساة أشقائنا في سوريا.