دائماً يوجد عنصر أساسي لازم لإنجاح أية مبادرة دبلوماسية للتوسط بين فرقاء متصارعين، هو ذلك القدر المهم من «توازن المصالح» بين هؤلاء الأطراف المتضمن في مثل تلك المبادرة، إلى جانب عنصر أساسي آخر هو توقيت إعلان تلك المبادرة. من هنا تتبدى الإشكالية التي تتهدد مستقبل المبادرة الصينية الراهنة التي تقدمت بها الدبلوماسية الصينية لحل الأزمة الأوكرانية.

من المنظور الصيني تبدو هذه المبادرة متوازنة لأنها تركز على عمق الأزمة الأوكرانية، وهو مسألة «الأمن المتوازن» بين طرفي الصراع، لكن توقيت إعلان المبادرة جاء متأخراً كثيراً بعد أن جعلت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لأوكرانيا مؤخراً الولايات المتحدة طرفاً شبه مباشر في هذه الأزمة، إن لم تكن قد أضحت طرفاً مباشراً بكل ما يعنيه ذلك من معانٍ وتفاصيل، ومن ثم فإن مسألة «الأمن المتوازن» التي تعتقد الصين أنها ضمنتها كأساس لمبادرتها تعتبر غير متوفرة إذا قبلنا أن الولايات المتحدة ومن خلفها دول حلف شمال الأطلسي، أو بتحديد أكثر دول الجناح الشرقي للحلف، كانت لها مواقفها الرافضة للمطالب الروسية قبل تفجر الأزمة، فما يمكن أن يكون أمناً متوازناً بين روسيا وأوكرانيا ليس بالضرورة يكون أمناً متوازناً بين الولايات المتحدة وباقي دول حلف شمال الأطلسي من ناحية وبين روسيا من ناحية أخرى، التي كانت مواقفها المتشددة والرافضة للمطالب الروسية في «الأمن الإقليمي المتوازن» سبباً مباشراً للدخول العسكري الروسي إلى أوكرانيا يوم 24 فبراير/ شباط 2022، فقد رفضت الولايات المتحدة ودول الحلف القبول بالمطالب الروسية لتحقيق الأمن الإقليمي المتوازن وبالتحديد الإعلان الرسمي الأطلسي بعدم قبول دخول أوكرانيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى لا يكون هذا الحلف ملاصقاً للحدود الروسية، أي أن روسيا كانت تريد أن تجعل أوكرانيا أرضاً محايدة فاصلة بينها وبين حلف شمال الأطلسي. ومن هنا كان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تدخلاً من منظور الدفاع عن الأمن الوطني الروسي، أو إجراءً وقائياً واستباقياً للدفاع عن هذا الأمن.

ما أعلن من المبادرة لإنهاء الحرب في أوكرانيا تضمن 12 بنداً أبرزها بالتحديد البندين الأول والثاني، إلى جانب بنود أخرى لا تثير خلافات من جانب معظم الأطراف. وإذا كان البند الأول يحقق مطالب أوكرانيا، فإن البند الثاني يؤمن المطالب الروسية، أو على الأقل معظمها، ومن هنا جاء الاعتقاد الصيني بأن المبادرة متوازنة، لكنها من المنظور الأوكراني – الأطلسي غير متوازنة وترجع بالأزمة إلى بداياتها.

فقد نص البند الأول على «ضرورة احترام سيادة الدول» وأن «جميع الدول متساوية بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها»، وأنه «يجب تطبيق القانون الدولي بشكل موحد، والتخلي عن المعايير المزدوجة»، وهي نصوص تلبي النقاط الأساسية في المطالب الأوكرانية، وعلى الأخص عدم جواز ضم أي جزء من أراضيها إلى روسيا، فإن البند الثاني جاء ليؤمن الجزء الأساسي من المطالب الروسية، حيث نص على أنه «لا يمكن ضمان أمن دولة على حساب أمن الدول الأخرى (أي لا يجوز ضمان أمن أوكرانيا بانضمامها إلى حلف الأطلسي على حساب مطالب الأمن الروسية)»، كما نص على أنه «لا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز الكتل العسكرية وتوسيعها»، وأنه من الضروري «احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية لجميع البلدان ومعالجتها بشكل مناسب».

لذلك جاء الرفض لهذه المبادرة صريحاً من جانب الولايات المتحدة التي جعلتها زيارة رئيسها جو بايدن لأوكرانيا تعتلي أعلى الشجرة ولم يعد في مقدورها النزول عنها، وبما تعنيه أيضاً من إلحاق الهزيمة بروسيا وكسر مشروعها السياسي وطموحها أن تكون شريكة في قيادة نظام عالمي جديد أكثر ديمقراطية.

من هنا جاء الرفض الأمريكي والأطلسي للمبادرة الصينية، والأكثر من ذلك بدأت المزايدة على الصين واتهامها على لسان رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية ووزير الخارجية بالإعداد لتقديم «أسلحة فتاكة إلى روسيا»، والتركيز على تردد الصين، حتى الآن، عن «إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا».

إفشال الأمريكيين للمبادرة الصينية بدعم كامل من الدول أعضاء حلف الأطلسي الذين يؤيدون دعاوى الرئيس الأوكراني، بشرط الانسحاب الروسي الكامل وغير المشروط من الأراضي الأوكرانية، وتحمل تبعات الغزو والمزايدة على الصين لإجبارها على أخذ موقف الغرب المعادي لروسيا، يضع الصين في موقف صعب ليس فقط مع روسيا حليفها الاستراتيجي؛ بل مع المصالح والأمن الاستراتيجي الصيني، وهنا تجد الصين نفسها أمام مأزق الموقف المتوازن من الحرب الأوكرانية.