لم تكن قرية الغجر في الجولان السوري المحتل، والتي توسعت إلى الأراضي اللبنانية إبان الاحتلال الإسرائيلي، منطقة مواجهة عسكرية بين "حزب الله" وإسرائيل. لكنها اليوم تعود إلى الواجهة والصراع بعد التصعيد الأخير الذي شهدته الحدود الجنوبية اللبنانية على مثلث المجيدية المحاذي للقرية، والمتصل بمزارع شبعا، وهي منطقة متشابكة بالجولان. وفيما لم تتضح ملابسات الانفجار الذي حدث قرب الغجر، تركز القصف الإسرائيلي على المناطق المتاخمة لتلال كفرشوبا والمزارع، من دون حصول مواجهة مع "حزب الله" تتصل بالخيم المنصوبة في منطقة تعتبرها إسرائيل ضمن نطاق سيطرتها. لكن التطورات تنذر بمزيد من التصعيد من دون أن يميل إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، خصوصاً أنها تأتي عشية التجديد للقوات الدولية في الجنوب (اليونيفيل).

بقيت منطقة الغجر هادئة طوال السنوات الماضية، بخلاف مناطق جنوبية أخرى شهدت مواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل، فهذه القرية وبسبب موقعها وإشكاليتها بوجود سكان سوريين في الجزء الشمالي اللبناني منها، حُيّدت عن المعارك العسكرية منذ أن انسحبت إسرائيل من الجنوب اللبناني عام 2000 وحتى في حرب تموز (يوليو) 2006 عندما عاودت إسرائيل احتلال الجزء اللبناني منها. لكن التطور الأخير الذي حدث في الغجر، بعد إنشاء إسرائيل سياج شائك والبدء ببناء جدار إسمنتي حول البلدة مقتطعة الجزء الشمالي اللبناني منها، ينذر باحتمالات تصعيد يغطي على توتر الخيمتين الأخير لـ"حزب الله" في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وإن كانت قرية الغجر قد أخضعتها إسرائيل لإدارتها منذ سنوات وفصلت جزءها الشمالي عن السيادة اللبنانية خارج سيطرة قوات "اليونيفيل" العاملة في الجنوب اللبناني.
وضع هذا التطور قرية الغجر في مهب صراع جديد، إذ لا يمكن تقدير احتمالات مستقبل الجزء اللبناني المحتل في القرية الواقعة على أطراف هضبة الجولان السورية المحتلة وبالقرب من قرية الوزاني في الطرف الشمالي الشرقي للحدود مع فلسطين، على الرغم من أن إجراءات إسرائيل في الغجر، ليست جديدة، فهي بدأت في عام 2006، بعد إعادة احتلالها أجزاءً من المنطقة الحدودية، ثم انسحابها من كل المناطق باستثناء الغجر، وإن كانت اعترفت منذ انسحابها من لبنان عام 2000، بأن الطرف الشمالي هو أرض لبنانية، وثبتته الأمم المتحدة ضمن الخط الأزرق الذي رسمته عام 2000.

يبقى ملف الغجر أكثر تعقيداً، إذ إن الذين يسكنونها سوريون، في طرفيها، الجنوبي الذي يتبع لسوريا وتحتله إسرائيل، والشمالي اللبناني الذي استحدث بالتوسع أثناء احتلال إسرائيل للمنطقة الحدودية في 1978. وإذ تعود قضيتها إلى الواجهة، فلأنها أرض لبنانية، علماً أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 كان قد قرر سحب قواته من الجزء الشمالي للقرية، مشترطاً أن تكون المنطقة في عهدة "اليونيفيل"، إضافة إلى اعتراف دولي بتطبيقه القرار الدولي الرقم 1701. لكنه اعتبر آنذاك مناورة لا تعيد القرية إلى السيادة اللبنانية، كما أن هذا الانسحاب لا يكتمل من دون خروج الجيش الإسرائيلي من مزارع شبعا التي لا يشملها الخط الأزرق ولا تعترف إسرائيل بلبنانيتها، وأيضاً تلال كفرشوبا وذلك بسبب تشابك المنطقة على الحدود، وكلها اليوم تحت الاحتلال.

الموقع الجغرافي للغجر يفتح على احتمالات عدة، لكنه لا يندرج ضمن حسابات "حزب الله" في المواجهة مع إسرائيل والتي باتت تعتبر المنطقة ضمن سيادتها، خصوصاً أنها تتداخل بالأراضي اللبنانية، باعتبار أن الغجر المحتلة هي سورية في الأساس، ووسعت لتشمل أراضيَ لبنانية سيطرت عليها إسرائيل.

في عام 2009 رفض لبنان اقتراحاً يقضي بوضع الشق اللبناني المحتل من القرية في عهدة (اليونيفيل) بعد انسحاب إسرائيل منها، مصراً على وضعها تحت السيادة اللبنانية من خلال انتشار الجيش اللبناني فيها، ودعّم لبنان موقفه بوثائق ترسيم الخط الأزرق ما بين لبنان وإسرائيل والتي تشير إلى أن قسماً من الغجر لبناني وينبغي استرداده. لذا تبقى هذه القضية عالقة، وتشكل مصدر توتر مستمراً، وهي المنطقة الوحيدة التي لا تزال محتلة مع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وتشكل خرقاً للقرار 1701. ويشار في هذا الصدد إلى أن إسرائيل اقترحت سابقاً على أيام رئيس حكومتها السابق آرييل شارون، إخلاء الجزء الشمالي وتدمير مبانيه، أو تقسيم القرية بين شطرين لبناني وسوري، وتخيير سكان الغجر بين البقاء أو الانتقال للعيش في كنف السلطة اللبنانية، وهو ما رفضه السكان، إلى أن بدأت إسرائيل ببناء جدار حول الجزء الشمالي اللبناني للقرية.

احتلت إسرائيل قرية الغجر السورية ومزارع شبعا اللبنانية مع احتلالها هضبة الجولان السورية المتاخمة عام 1967، ولم تكن القرية ممتدة في اتجاه الشمال اللبناني. وبموجب الخط الأزرق للحدود اللبنانية أصبح شمال الغجر جزءاً من لبنان، ما ترك الجزء الجنوبي تحت سيطرة إسرائيل. وأخلت إسرائيل شمال الغجر عام 2000 عندما أنهت احتلالها للجنوب الذي استمر 22 عاماً، لكن لبنان لم يستعد سيادته إلا على تخوم القرية، قبل أن تعاود إسرائيل احتلالها مرة أخرى خلال حرب تموز (يوليو) 2006، ولم تنسحب منها. وحتى حزيران (يونيو) 1967 كانت القرية تخضع للإدارة السورية، وإن كانت مشكلتها أكثر تعقيداً منذ تحديد الحدود اللبنانية – الفلسطينية - السورية عام 1923، وفي اتفاق الهدنة مع إسرائيل عام 1949، إذ تارة كانت تعتبر لبنانية وتارة سورية وثالثة مشتركة، إلى أن حُسمت سوريتها نهاية خمسينات القرن الماضي. ويقال إنه عندما احتلت إسرائيل منطقة الجولان من سوريا عام 1967، لم تدخل أولاً الى قرية الغجر لاعتبارها لبنانية، رغم أن لبنان لم يكن يمارس سيادته عليها.

مع احتلال إسرائيل المنطقة الحدودية من لبنان عام 1978، توسعت الغجر شمالاً داخل الأراضي اللبنانية. ومنحت إسرائيل سكان الغجر الجنسية الإسرائيلية عام 1981، بعدما قرر الكنيست الإسرائيلي من خلال "قانون الجولان" ضّم الهضبة إلى "إسرائيل". وبعدما انسحبت من الجنوب في عام 2000، شمل الخط الأزرق الجزء الشمالي من الغجر، فاضطرت اسرائيل الى إخلائه من دون ان يدخله الجيش اللبناني الذي لم يكن قد انتشر بعد في الجنوب، ولذلك فإن الانسحاب الإسرائيلي من شمال الغجر، لا يرتبط بالقرار 1701 فحسب، بل يتعلق بالقرار 425 أيضاً، والانسحاب يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2006، وهي المنطقة الوحيدة ضمن الخط الأزرق التي لم تنسحب منها إسرائيل.

تختلف قضية الغجر عن مزارع شبعا، فالجزء الشمالي للقرية لبناني باعتراف إسرائيل والأمم المتحدة، وهو مشمول بالخط الأزرق، بخلاف المزارع التي تحتاج إلى اعتراف رسمي سوري بلبنانيتها رغم أنها احتلت في عام 1967. وفي معزل عن النقاش الدائم حول وظيفة المقاومة ودورها والحسابات الإقليمية في أي مواجهة يخوضها "حزب الله"، وبصرف النظر عن أحقية طرح الأسئلة حول المنطقة، وحسابات الجدوى والمصالح الوطنية اللبنانية، خصوصاً بعد حرب تموز (يوليو) 2006 وصدور القرار 1701، فإن الأمر يستدعي التوقف فعلاً أمام طريقة التعامل مع هذه المناطق المحتلة وتوظيفها لحسابات أخرى، خصوصاً مزارع شبعا عندما كانت المنطقة خاضعة للسيطرة السورية بموافقة لبنانية، إذ دفع احتلال الجولان السوري المحاذي للمزارع بالأمم المتحدة إلى الحسم في إدراجها تحت القرار 242، من دون بروز أي موقف لبناني يسمح بإبقاء منطقة المزارع في الخريطة اللبنانية. ولكن بعد عام 2000 اعتبرت الحكومة اللبنانية أن المزارع مشمولة بالقرار 425، من دون أن تعطي الوجه القانوني لذلك، ما أدى إلى تعارض حقيقي وحاد بين النظرتين.

وفي الواقع، تطرح مسألة الغجر تساؤلات كثيرة حول طريقة تعامل الدولة اللبنانية معها، وأيضاً موقف "حزب الله" منها، إذ كانت تبقى دائماً خارج دائرة المواجهة، وكأنه يربطها بحسابات مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. ويبدو أن مشكلة السوريين الذين يعيشون في الجزء الشمالي للغجر ويحملون الجنسية الإسرائيلية تشكل عائقاً أمام استعادتها. وعلى رغم عودتها إلى الواجهة، لا يطرح ملفها احتمالات تصعيد وخرق قواعد الاشتباك. بخلاف ما يحدث في مناطق حدودية أخرى. فقرية الغجر لبنانية، باعتراف الجميع، أما ممارسة السيادة عليها، فيبدو أنه يرتبط أكثر بسوريا، وعلى ذلك تبنى الحسابات في أي مواجهة؟