"أمام بريطانيا طريق طويل من أجل السيطرة على التضخم"

جيرمي هانت، وزير الخزانة البريطانية

بصرف النظر عن بعض المؤشرات الإيجابية التي شهدها اقتصاد بريطانيا في الآونة الأخيرة، إلا أن هذا الاقتصاد يبقى في المنطقة الحساسة جدا، قياسا ببقية الاقتصادات المتقدمة الأخرى، فحتى التراجع الذي شهده التضخم في الشهر الماضي، لم يأت بسبب السياسة المالية المتشددة التي يتبعها بنك إنجلترا المركزي، بل نتيجة قيام المحال التجارية بخفض طوعي لأسعارها، بعد موجة من الانتقادات والهجوم عليها من قبل المؤسسات المدنية والصحافة وغيرها من مراكز الضغط الاجتماعية المعروفة، فهذه المحال رفعت الأسعار ما فوق مستويات التضخم، أي أنها أسهمت في زيادة أسعار المستهلك، إلى جانب التأثيرات المباشرة للتضخم العام.

الحكومة تعرف تماما أن المسار نحو النمو لا يزال بعيدا، وأن العودة إلى سياسة التيسير الكمي تتطلب وقتا لن يكون قصيرا، وأن خفض الدين العام يبقى صعبا في ظل التطورات الاقتصادية العامة الراهنة.

والحق، أنه لا يوجد اقتصاد متقدم يهتم حاليا بمستويات النمو، بقدر تركيزه على الخروج من ضربات الموجة التضخمية، فالهدف يبقى البقاء خارج دائرة الركود، وإن كان التباطؤ هو السمة الرئيسة في المشهد العام.

ويتفق المراقبون المهتمون بالشأن البريطاني، على أن التضخم في المملكة المتحدة مشكلة أكثر رسوخا، مقارنة بغيرها في حالات غربية أخرى.. لماذا؟ لأن البلاد التي شهدت تغييرا متلاحقا لرؤساء الوزراء، واضطرابات سياسية كبيرة داخل حزب المحافظين الحاكم، دفعت حكومة ريشي سوناك لتحميل ارتفاع التضخم على أسعار الطاقة التي زادت بفعل الحرب الروسية - الأوكرانية، لكن المشكلة أن أسعار النفط والغاز انخفضت في الآونة الأخيرة، والتضخم زاد في البلاد. وأسعار المستهلك باتت الأعلى مقارنة بمثيلاتها في أوروبا والولايات المتحدة. ما يعني أن عوامل أخرى هي التي تقف وراء أداء الاقتصاد المحلي العام.

والذي يزيد من معدلات القلق على الساحة البريطانية، أن أسعار الخدمات ارتفعت الشهر الماضي بنسبة 0.8 في المائة، وهذا يعد مؤشرا واضحا عادة لمستوى التضخم على الساحة المحلية.

ويعترف وزير المالية جيرمي هانت، بأن المخاوف مستمرة في ميدان العمالة ومعدلات الإنتاج، إلى جانب القلق بشأن النمو في المدى الطويل. بلغ التضخم في المملكة المتحدة 6.9 في المائة، وتراجع بالفعل على مدى أشهر من أكثر من 10 في المائة، وكان في ذلك الحين الأعلى مقارنة بالساحة الغربية كلها، بل صنف اقتصاد البلاد في المرتبة قبل الأخيرة ضمن اقتصادات مجموعة العشرين، وأتى بعده الاقتصاد الروسي. وتقف أسعار الفائدة حاليا عند 5.75 في المائة، وبات من شبه المؤكد أنها ستبلغ 6 في المائة بحلول نهاية العام الحالي، مع تمسك البنك المركزي بمواصلة التشديد النقدي، ولا توجد جهة تتوقع في الوقت الراهن تراجع سعر الفائدة قبل منتصف العام المقبل، في حين أنه من المرجح أن تنخفض إلى 4.5 في المائة بحلول 2026.

وهذا المشهد العام يثير القلق حقا، خصوصا في ظل مؤثرات سلبية لا تزال قائمة آتية من جهة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، وعدم تمكن البلاد من إطلاق سلسلة من الاتفاقات التجارية على الساحة الدولية، بعد خروجها من الكتلة الأوروبية.

وأخيرا، اعترف ريتشارد هيوز رئيس مكتب مسؤولية الميزانية، أن وطأة "بريكست" على اقتصاد المملكة المتحدة، تضاهي في حجمها وطأة جائحة كورونا وأزمة أسعار الطاقة. يضاف إلى ذلك أن أسعار الخدمات ستواصل الارتفاع، في حين أن هذا القطاع يشكل حجر الزاوية في الاقتصاد المحلي، فضلا عن سلسلة لم تنته بعد من الإضرابات في أغلبية القطاعات، التي أضافت أعباء على الأداء الاقتصادي كله.

ويبدو واضحا أن هذه الإضرابات لن تتوقف في وقت قريب، بسبب تمسك الحكومة بمواقفها الرافضة لرفع الأجور إلى المستويات التي تطلبها اتحادات العمال.

من هنا، يمكن النظر إلى اقتصاد بريطانيا على أنه يواجه حالة خاصة، قياسا باقتصادات أوروبا والولايات المتحدة. فهذه الأخيرة مثلا نجحت في السيطرة على التضخم، بحيث أوصلته إلى 3 في المائة، وستواصل الحراك من أجل أن تحقق الهدف الأقصى الرسمي لأسعار المستهلكين عند 2 في المائة.

وفي الأشهر القليلة المقبلة، ستدخل بريطانيا موسم انتخابات لن يكون سهلا على البلاد، التي واجهت اضطرابات سياسية حزبية أسهمت في تفاقم الوضع الاقتصادي، بما في ذلك وصول ليز تراس لرئاسة الوزراء ومكوثها في "داونينج ستريت" 44 يوما فقط، بعد أن أحدث أزمة أدت اليوم إلى مشكلات لا تحصى لمالكي العقارات، في أعقاب تقديمها ميزانية خفضت فيها الضرائب، دون وجود تمويل لهذا الخفض.

ولا شك في أن الأشهر المقبلة ستكون أشد صعوبة على حكومة ريشي سوناك، الذي من المرجح أن يتعرض لخسارة الانتخابات العامة، في الوقت الذي لا يزال فيه فاقدا لتأييد قاعدة الأعضاء في حزبه.

إنها مرحلة حساسة سياسيا واقتصاديا ستمر بها المملكة المتحدة، لكنها بلا شك مرحلة نادرة جدا في تاريخها الحديث.