كنت في باحة المنزل، قرب الحديقة الأثيرة وبركة الماء، بُعيدَ الثالثة عصراً، أصغي للنقاش الدائر بين صاحب الدارِ عثمان العمير ورحاب مسعود، وهما يذهبانِ عميقاً في تفاصيل تأريخ الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وسمفونية بيتهوفن التي كنا نستمع لها، فيما سماء مراكش تعلو كمساحة ممتدة من نورٍ لا ينقطع.

أعلم شغف ناشر "إيلاف" الأستاذ عثمان العمير بالموسيقى الكلاسيكية، إلا أنها كانت المرة الأولى التي أعرف أن رحاب مسعود، الدبلوماسي السعودي الذي طالما انهمك في متابعة ملفات سياسية معقدة، هو الآخر لديه من علم الموسيقى الكثير، وهو المتيّمُ بالقصيدة!

كانت الساعات تمرُ كنسمة باردة ندية دون أن نشعر بها، حينما نتحلق حول الطاولة في منزل "سي عثمان"، فتنسابُ أحاديث الشعر والفن والصحافة والسياسة، ويفتحُ العُميرُ شيئاً من خزانة أسرار "صاحبة الجلالة".

لا تنسى تلك الأيام حين نستيقظُ صباحاً فنجد الراحل سي الحسن العلوي وهو يتصفح الجرائد، واحدة تلو الأخرى، ويسرد لك تفاصيلها، وتأريخ المغرب إبان حكمِ الراحل الملك الحسن الثاني.

ليس ببعيدٍ من دارة العُمير، كان "قصر العزيزية"، حيث أقام الأمير بندر بن سلطان، الرجل الذي ربطته مع المغربِ صداقات قديمة، وقدمَ لها بودٍ مكتبة أنيقة في "أصيلة" وأعاد ترميم "قصر الثقافة" في ذات المدينة التي تتكئ على البحر، وصارت مقصداً للفنانين والمثقفين خلال مهرجانها السنوي.

قرب "قصر العزيزية" بمحلةِ "الجنينات" والتي هي جزء من منطقة "النخيل"، يقع "قصر عزيزة"، المنتجعُ الهادئ الأنيق، حيث الصباحات الباذخة، ومائدة الإفطار المغربي الشهي حول البركة، والطواويس تختالُ متباهية حولك، وكأنك في جنانِ عدنٍ.

الشمس تشرقُ في "قصر عزيزة" مرتين، حتى ترتفع في رابعة السماء فجراً، وحين يلقي عليكَ محبته سي نافذ الجندي وقتَ الإفطار!
كان ذلك المنتجعُ الحديقة التي ترخي لها رأسك، تهربُ إليها من ضجيج المدينة وزحامها، وتستأنسُ بقلة عدد زواره، فهو مساحةٌ خاصة لا يعرفُ الكثيرون كيف يفكونَ أزرار قميصها، ويجمعون دررها، ففيه كنتُ أجلسُ كالمريدِ بين يدي شيخه، أحاول الحصولَ على شيء من أناةِ سي رحابَ وتجربته.

كنت أخرجُ للمشيِ في ذلك الشارع الممتد بين المنزلين، لأنتقلَ بين فرحٍ وفرح، بين بهجة وبهجة، ضحكاتٍ تتناثرُ، وكتبٌ تقرأ، ونقاشاتٌ لا تُملُ، وموائد عشاء تجمعُ الخلان.

في ذلك الدربُ الأثيرُ بين قصر بندر بن سلطان ومنزل عثمان العمير، جاء ملوكٌ وأمراء وشخصيات سياسية وصحافية ومثقفون وفنانون؛ والجامع بينهم: مراكش، المدينة التي تُلقي عليهم محبة وسلاماً!

في المدينة الحمراء أذكُرُ ذات شتاء، عدتُ إلى "قصر عزيزة"، طلبتُ أن يُشعل موقدُ الحطبِ، نظرتُ في النار التي كانت تشعُ بدفء، وتمنح المكانَ روحاً ثانية، فتحتُ جهاز الحاسوب المحمول، وكتبتُ واحداً من أحب النصوصِ إلى قلبي عن الفيلسوف الأثير نيتشه.

لم تكن تلك هي الذكرى الوحيدة الأثيرة إلى قلبي، فهنالك الكثير من الأماكن التي فيها شيءٌ من الروح.

حتى الساعة، لا أزالُ "أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى، أُقَبِّل ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا.. وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي، وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا".. ففي كل مرة أكون فيها في مراكش، أمرُ صوبَ "مقهى البريد"، متذكراً صورة ثلاثية هي حتى الساعة سراجٌ متقدٌ في القلب.

الفاسية، دارُ الزليج، الماومونية، ليفرناج، المدينة القديمة.. كلُ هذا الفسيفساء الباذخ، يجعلُ مراكش جزءاً منك، ويصيرك حرفاً في اسمها!
صيفاً حين كنتُ، طالما سطعت شمسها العالية في جسدي، الذي كنت أرميه في أتونها، دون خشية من حرارتها العالية، فقد كانت الترياق من وجعِ السنواتِ وما يعكر صفو الأيام.

كان العشب الأخضر الأنيق في "جردة" الفندق يداعبُ أقدامي الحافية، يأخذ منها غضبَ المسير، ويقودها نحو المسبح الذي عصفت به الريح فجأة ذات مساء غاضب، فهطلت السماء غزيراً، فما كان مني إلا أن وقفت تحت المطر مغتبطاً بالماء الذي يطهر روحي ويُقبلُ جسدي.

مراكش ليست مدينة للبهجة وحسبَ، بل هي فضاء للثقافة والفن، فمنها خرج "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي"، وهي تحتضن سنوياً العديد من المؤتمرات الهامة؛ فيما عشاقُ القراءة سيجدون على أرصفتها، فضلاً عن مكتباتها العديد من الإصدارات الفكرية والفلسفية الرصينة؛ وحين تذهب لصالاتها المغلقة، ستقف على تجارب مختلفة مغربية وأوروبية في الفن التشكيلي والنحت والطباعة!

تركتُ مراكشَ، وقلبي معلقٌ بها، وكأن الشاعر أصابَ حين قال "إن التي زعمت فؤادك ملـّـها، خُلقت هواك كما خُلقت هوى لها".